دلت الأدلة القاطعة، والشواهد الواضحة أنه لم يعد في الأرض دين حق سوى دين الإسلام، والشخص الذي يدخل في هذا الدين لاسيما الذي يعرفه عن كثب معرفة تامة، ويذوق حلاوته، وينعم بالعيش الهنيء في ظلاله الوارفة، ويقطع بصدق أخباره وعدل أحكامه، ويستضيء بنوره في خضم الحياة ثم ينكص بعد ذلك على عقبيه، ويخرج من هذا النور الهادي إلى ظلمات الكفر والشرك والإلحاد، هذا الشخص يكون ولا شك سببا في هدِّ بنيان نظام حياة فريدة في الأرض، وفي تخلخل صف أمة هي خير أمة أخرجت للناس، ومن هنا كان الخطر.
وقبل الخوض في تعريف الردة وبيان أحكامها نؤكد أن تنفيذ حكم الردة خاص بولي الأمر أو من ينيبه، ولا يجوز للأفراد أن يتولوا إقامة أي حد من الحدود الشرعية دون أمر من السلطان.
الردة في اللغة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه، والارتداد بمعنى الردة، إلا أنه يستعمل في الكفر وفي غيره، بخلاف الردة فإنها مختصة بالكفر، قال تعالى: {مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}، وقال: {فَارْتَدَّ بَصِيراً}.
وفي الاصطلاح: “رجوع المسلم عن الإسلام إلى الكفر”.
ويظهر من التعريف أن الردة قد تحصل بالقول وبالفعل وبالاعتقاد، إلا أن الاعتقاد إذا لم يطلع عليه بإظهار صاحبه ما يدل عليه لا يمكن الحكم على صاحبه في الظاهر بالردة.
جاء في الحديث المشهور الذي قارب حد التواتر ورواه ثمانية من الصحابة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ”، وفي رواية: “من رجع عن دينه فاقتلوه”، وفي لفظ: “من ارتد عن دينه فاقتلوه”.
وخصص الإمام البخاري رحمه الله كتابا في صحيحه سماه استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، وكذا صنع كثير من مصنفي مصادر الحديث، ومنهم من ذكر حد الردة في كتاب الحدود، فالأمر مستقر طوال القرون الثلاثة الأولى التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم خير القرون. كما كثرت أقوال التابعين عن حد المرتد، ولا خلاف بينهم على قتل الرجل المرتد.
الردة عند علماء المذاهب الأربعة
مذهب سادتنا المالكية: قال ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة: “حكم المرتد ظاهرا، وحكم من أسر الكفر، أو جحد فرضا مجتمعا عليه، أو أبى من أدائه أو سحر، وكل من أعلن الانتقال عن الإسلام إلى غيره من سائر الأديان كلها طوعًا من غير إكراه، وجب قتله بضرب عنقه” الكافي 2/210.
مذهب الأحناف: يقول الكاساني في بدائع الصنائع15/421: “مِنْهَا -أي من أحكام المرتد- إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا كَانَ رَجُلا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا؛ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَكَذَا الْعَرَبُ لَمَّا ارْتَدَّتْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عَلَى قَتْلِهِم”.
مذهب الشافعية: قال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب 19/228: “إذا ارتد الرجل وجب قتله، سواء كان حرا أو عبدا، لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير نفس”، ثم قال: “وقد انعقد الإجماع على قتل المرتد، وان ارتدت امرأة حرة أو أمة وجب قتلها، وبه قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والحسن، والزهري، والأوزاعي، والليث ومالك، وأحمد، وإسحاق”.
مذهب الحنابلة: قال ابن قدامة في المغني 9/16: “وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ، فَكَانَ إجْمَاعًا”.
إن الإسلام لا يرغم أحدا على الدخول فيه لقوله تعالى: “لاَ إكرَاه فِي الدِّين”، وليس معنى هذا ترك الباب مفتوحا أمام اللاهين والعابثين، يدخلون اليوم ويخرجون غدا، قال سيد سابق رحمه الله تعالى في فقه السنة بعد أن بيَّن قيام البراهين والأدلة على صحة هذا الدين وشموله لجميع مجالات الحياة: “فإذا خرج منه وارتد بعد الدخول فيه، وإدراكه له كان في الواقع خارجا على الحق والمنطق، ومنكرا للدليل والبرهان، وحائدا عن العقل السليم والفطرة المستقيمة، والإنسان حين يصل إلى هذا المستوى يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط، ومثل هذا الإنسان لا ينبغي المحافظة على حياته، ولا الحرص على بقائه، لأن حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل” اهـ.