أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ إعداد عبد الله المصمودي

إن القصص المكذوبة في تاريخ أمتنا لكثيرة كثيرة، خاصة تاريخ صدر الإسلام وعصر الخلافة الراشدة، واليوم نتعرض لقصة مكذوبة منتشرة في كثير من الكتب وحتى في بعض المقررات الدراسية، وهي قصة شريح القاضي:

روى أبو نعيم رحمه الله في الحلية (4/139)، هذه القصة بسندين أحدهما: أن علياً رضي الله عنه وجد درعاً له عند يهودي التقطها، فعرفها -أي علي- فقال: درعي سقطت عن جمل لي أورق، فقال اليهودي درعي وفي يدي، ثم قال له اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتوا شريحاً، فلما رأى علياً قد أقبل تحرف عن موضعه، وجلس علي فيه ثم قال علي: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجلس، وألجئوهم إلى أضيق الطرق، فإن سبوكم فاضربوهم، وإن ضربوكم فاقتلوهم. ثم قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟ قال: درعي سقطت عن جمل لي أورق والتقطها هذا اليهودي، فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي، فقال شريح: صدقت، والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك، ولكن لا بد من شاهدين فدعا قنبراً مولاه والحسن بن علي، وشهدا أنها لدرعه، فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك لك فلا نجيزها، فقال علي: ثكلتك أمك، أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. قال: اللهم نعم، قال: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ والله لأوجهنك إلى بانقيا -ناحية من الكوفة- تقضي بين أهلها أربعين يوماً، ثم قال لليهودي: خذ الدرع، فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين، فقضى عليه ورضي، صدقت والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطها، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فوهبها له علي، وأجازه بتسعمائة، وقتل معه يوم صفين.
أما السند الثاني: فهي أنه لما توجه علي إلى حرب معاوية افتقد درعاً له، فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة أصاب الدرع في يد يهودي يبيعها في السوق، فقال له علي: يا يهودي، هذه الدرع درعي، لم أبع ولم أهب، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فقال علي: نصير إلى القاضي، فتقدما إلى شريح، فجلس علي إلى جانب شريح، وجلس اليهودي بين يديه فقال علي: لولا أن خصمي ذمي لاستويت معه في المجلس، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صغروا بهم كما صغر الله بهم. فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين، فقال: نعم، إن هذه الدرع التي في يد اليهودي درعي، ولم أبع ولم أهب، فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟ فقال: درعي وفي يدي، فقال شريح: يا أمير المؤمنين بينه، قال: نعم، قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي، قال: شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الدرع درعك، كنت راكباً على جملك الأورق، وأنت متوجه إلى صفين، فوقعت منك ليلاً فأخذتها، وخرج يقاتل مع علي الشراة بالنهروان فقتل.
هذه القصة قرأتها في سبل السلام للصنعاني، في كتاب القضاء باب تسوية القاضي بين الخصوم في المجلس، عازياً لها إلى الحلية، وأعجبت بها، وكنت آنذاك لا أميز بين الصحيح والموضوع، وقد ارتسمت في ذهني لما اشتملت عليه من العدل والإنصاف من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ وقاضيه شريح بن الحارث الكندي رحمه الله، وبعد زمن طويل طالعت في كتاب الأباطيل للجوزقاني، فإذا هو يذكر القصة في الأباطيل، ولما رأيت الناس معجبين بهذه القصة كما أعجبت بها، فذاك يلقيها في محاضرته، وآخر ينشرها في مجلته، وثالث يذكرها في كتابه -صور من حياة التابعين- والقصة لا تصح، رأيت أن أذكر ما قال أهل العلم في هذه القصة.
فقد ذكر القصة الذهبي في الميزان (1/585) في ترجمة أبي سُمير حكيم بن خِذام، وذكر الحافظ الذهبي أن أبا حاتم قال: إنه متروك الحديث، وقال البخاري منكر الحديث يرى القدر.. فعلم بذلك أن القصة ضعيفة جداً من طريق سمير هذا.
والجوزقاني رحمه الله ذكرها في الأباطيل (2/197) وقال: (ص:198): هذا حديث باطل تفرد به أبو سمير، وهو منكر الحديث إلى آخر ما ذكره.
وأورد هذه القصة أيضاً محمد بن خلف الملقب بوكيع في كتابه (أخبار القضاة) (2/194) بسند آخر مظلم.
وذكرها ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/388) من هذا الوجه وقال: لا يصح.
وأما السند الثاني فسند مظلم لم أجد في كتب الجرح والتعديل إلا ترجمة علي بن عبد الله بن معاوية ومعاوية بن ميسرة، في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
ورواها البيهقي في السنن الكبرى (10/136) من وجه آخر من طريق جابر الجعفي عن الشعبي وذكر الحديث، وفي إسناده عمر بن شَمِر، انظر ترجمته في الجرح والتعديل (6/239) والميزان (3/268)، وانظر ترجمة جابر الجعفي في المجروحين (1/208) والميزان (2/379) والجرح والتعديل (2/497)، وهما ضعيفان.
فعلم أن هذه القصة لا تثبت، وعدالة الإسلام معلومة من غير هذه القصة الباطلة والحمد لله. (انظر كتاب أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ لأبي عبد الله الذهبي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *