لعل أعظم انتصار أحرزه المسلمون، كان في رمضان، في يوم الفرقان, يوم غزوة بدر, الذي كان في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية، وفتح مكة، وهو الفتح الأعظم، كان صبيحة يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان في السنة الثامنة.
أما في بدر، فقد خرج المسلمون من المدينة، ليعترضوا قافلة قريش وهي عائدة من الشام، مثقلة بالأحمال والكساء والغذاء؛ وندبهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “هذه عير قريش، فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها”.
كان الخروج للقافلة، الغنية، وقدر المسلمون أن يكون لهم من ورائها بعض الذي فقدوه من أموالهم بسبب الهجرة.
كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، معهم سبعون بعيرًا تحمل الزاد، وفرسان أو أربعة أفراس فقط.
لكن الأخبار تسربت إلى القافلة بخروج المسلمين إليها، فكسر قائدها أبو سفيان طريقه، فسلك جانب البحر، وأرسل إلى قريش لتخرج دفاعًا عن أموالها.. فهبت بصناديدها، وجهزت جيشًا قوامه تسعمائة وخمسون رجلاً، منهم سبعمائة بعير ومائة فرس.
وعلم المسلمون بأن عير قريش وقافلتها فرت ونجت من أيديهم، وإن قريشًا سارت للدفاع عن القافلة، وستصل بدرًا بعد يومين.
وهنا كانت المفاجأة، أراد المسلمون أموال القافلة، ففوجئوا بقريش تواجههم بحرب لم يستعدوا لها.
لكن الرسول الرحيم بأمته ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يشأ أن يفرض على المسلمين الحرب بل أراد أن يشركهم في هذا التحول؛ فقال: أشيروا علي أيها الناس!
فتكلم كبار الصحابة من المهاجرين، ومن الأنصار.
فكان من كلمة المقداد من المهاجرين: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون..
وكان من كلمة سعد بن معاذ سيد الأوس من الأنصار.. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا أحد.. إنا لصبرٌ في الحق، صدق في اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
استبشر النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع صحابته على المواجهة ولو كانت مفاجئة، فقال: “سيروا وأبشروا: والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم، إن الله وعدني في إحدى الطائفتين”، قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن} العير أو النفير (الحرب والنصر).
ولما نجت القافلة بتغيير طريقها، أرسل قائدها أبو سفيان إلى قريش قائلاً: إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجت فارجعوا.
لكن أبا جهل، أبى واستنكر، وقال: لا نرجع حتى نرد بدرًا، ونقيم فيها ثلاثًا، ننحر الجزور، ونشرب الخمور، ونطعم الطعام، ويسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا.
وأجمع المشركون على رأيه، فساروا حتى قربوا من بدر، ونزلوا في أرض سبخة (متربة)، وسار المسلمون فنزلوا في أرض مرسلة، فأنزل الله مطرا كان بلاءً على المشركين، فغاصت أقدامهم في الطين، وغابت قوائم الخيل في الوحل، وساءت حالهم. كما كان رحمة بالمسلمين، فشربوا وسقوا حيوانهم، وملؤوا أوعيتهم، وتلبدت الأرض تحت أقدامهم.
كما ظهرت الرحمة وتباشير النصر، بتقوية الروح المعنوية في قلوب المؤمنين عند اللقاء وفي قلب النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم عريشه، يدعو ربه، بحرارة وصدق، ويناشد ربه النصر، ويقول: “اللهم هذه قريش، قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني به، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم، لا تعبد”.
وأبو بكر يشهد الدعاء، ويسمع التضرع، ويقول:”يا نبي الله! بعض مناشدتك ربك، إن الله منجز لك ما وعدك”.
وفي هذا نزل قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:9ـ10].
وأخذت النبي صلى الله عليه وسلم سنة من النوم، وهو في العريش، ثم صحا يقول للصديق؛ أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل، آخذ بعنان فرسه، يقوده، على ثناياه النقع..
ثم خرج من العريش، يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [لقمر:45] ويحرض المؤمنين على القتال والمصابرة، قائلاً: “والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة”، ثم أخذ حفنة من الحصباء، فقذف بها قريشًا وقال: شاهت الوجوه، ثم قال لأصحابه: شدوا.. واشتد القتال وحَميَ الوطيس، وتهاوت السيوف وترامت النبال، وقاتلت الملائكة مع المسلمين، وما هي إلا ساعة، حتى هزم المشركون، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون..
قتل من المشركين في هذه الموقعة سبعون، فيهم رؤوس الكفر أمثال: عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وحنظلة بن أبي سفيان، وأبي جهل، وآخرين .. كما كان عدد الأسرى سبعين؛ وقتل من المسلمين أربعة عشر صحابيًا.
وقفل راجعًا بالمؤمنين، مكللين بالنصر المبين، إلى المدينة الطيبة.
كان ذلك في اليوم السابع عشر من رمضان، بعد أربعة عشر عامًا من بدء نزول القرآن.
تجلت في هذه الغزوة دروس ومبادئ مهمة، كان من أبرزها:
الدرس الأول: تطبيق مبدأ الشورى
1ـ طبقه النبي صلى الله عليه وسلم أولاً في أصل فكرة قتال المشركين، حينما قال: “أشيروا علي أيها الناس”، لكيلا يحرجهم بفرض القتال عليهم، وهو غير محبب إليهم.
2ـ وطبقه في موضع القتال، حينما نزل بالمسلمين بأدنى ماء بدر، فأشار عليه الحباب بن المنذر برأي الخبير..
وتبرز الحكم الآتية في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم صحابته:
1ـ تطييب قلوبهم، ورفع شأنهم.
2ـ تعليمهم ضرورة الشورى في المهام.
3ـ تصفية القلوب، واستئصال الأضغان، لأن النفوس تتأذى من الاستبداد وفرض الرأي.
4ـ بيان لطف مسلك النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وتألفه وتواضعه لهم.
الدرس الثاني: تفريغ القلب من المادة
فقد تعلق بعض المسلمين بالغنائم عقب النصر، وكادوا يختلفون فيما بينهم، فأدبهم القرآن، وصرفهم عن التشاغل بالمادة، والتنازع بسببها:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
فلما ثابوا إلى الرشد، وتطلعوا إلى مرضاة الله، نزل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال:41].
لقد كانوا في فاقة، لكن ما ينبغي أن تحملهم فاقتهم على الاختلاف من أجل المادة، فإن طاعة الله ورسوله فوق كل اعتبار.
والدرس الثالث: أن النصر بيد الله ومن عند الله
فالظواهر ما كانت تشير إلى انتصار المسلمين: قلة في العدد والعدة، جياع حفاة عراة، فوجئوا بالقتال، فأجمعوا أمرهم عليه، وربطوا الإيمان على قلوبهم، وتعلقوا بالله، واستماتوا في القتال طلبًا للشهادة .. وحرضهم النبي صلى الله عليه وسلم وبشرهم، واتخذوا معه جميع ما في طوقهم من الأسباب، فهيأ لهم أسباب النصر في المادة والروح:
1ـ وعدهم إحدى الطائفتين: القافلة أو النصر.
2ـ غشاهم النعاس، لتهدأ أعصابهم، ويستوثقوا من أنفسهم.
3ـ أنزل عليهم الماء من السماء، تثبيتًا لأقدامهم، وتطهيرًا لأجسادهم.
4ـ صور لهم عدد المشركين قليلاً كيلاً يفزعوا منه، وليجترئوا عليه.
5ـ وأرى نبيه العدد قليلاً، ليقوى قلبه، ويشتد عزمه.
6ـ أرسل ملائكته تقاتل مع المسلمين، وتثبت مواقفهم، وتنفث روح الاستشهاد، والثقة بنصر الله.
7ـ ألقى في قلوب المشركين الرعب، وهو نذير الفشل والخسران.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
الدرس الرابع: عاقبة الكبر والخيلاء، الخزي والسوء والعار
فهذا أبو جهل، لم يسمع إلى نصيحة أبي سفيان، بأن يعود بعد أن نجت القافلة، بل أصر على الخروج، والفخر بذبح الجمال، وشرب الخمور، وغناء القينات بهجاء المسلمين، وآمال النصر المعسولة.
فكانت عاقبته أنه قتل في المعركة، شر قتلة، وعلم أن آماله تكسرت، وأحلامه تحطمت..
لما رآى عبد الله بن مسعود أبا جهل وقد أسقطه من عن فرسه سهما ولدي عفراء، جثم على صدره، وهو يجود بأنفاسه، فقال له أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم. فقال له عبد الله: ها قد أخزاك الله يا عدو الله. فقال أبو جهل: لمن الدائرة اليوم؟ قال عبد الله: لله ورسوله. وأخذ خنجره فاحتز رأسه به، وحمله إلى الرسول وصحابته، فكبر وكبروا وقال: هذا فرعون هذه الأمة.. وكذلك تكون عواقب الفخر الفازع، والتعالي الأثيم على عباد الله المستضعفين.
والدرس الخامس: تبدأ الحياة بعد الموت
لا تنتهي الحياة بالموت، إلا وتبدأ حياة البرزخ، ويجب الإيمان بهذه الحياة الخاصة. وأن الأموات بعد دفنهم يسمعون ولا يتكلمون.
وقد صح عذاب القبر ونعيمه، كما ثبت في حديث اللذان يعذبان في قبريهما، وفي حديث البراء بن عازب الطويل، وقد أخبرنا بأن الحيوانات تسمع تعذيب العصاة في قبورهم.
إذن لابد من التسليم بهذه الحقائق الغيبية، وإن كنا لا نملك الحواس التي تنقل إلينا حياة أهل القبور.
والقرآن يشير إلى ذلك بقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
ويخبر عن سعادة الشهداء قائلاً: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:170].