صورة الثورة الفرنسية في تطبيقاتها العربية د. مصطفى السيد

بلغ صخب التنافس والتسابق على الإشادة والإشارة إلى منجزات الثورة الفرنسية 1898م ذروته، حتى تنافس الكثير من العرب والمسلمين في وصف مبادئ هذه الثورة وأنها بمثابة الخلاص للإنسانية، ولكن النظر ينقلب حسيراً إذ نجد رجالات العرب المسلمين لا يحضرهم شيء عن الإسلام صاحب الدعوة العملية ليس لحقوق الإنسان فقط بل لحقوق الحيوان: “أئن لنا في البهائم لأجراً؟ فيجيب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “في كل ذات كبد رطبة أجر” عليك الصلاة والسلام يا رسول الله وأنت تخاطب (أُحُدا) “هذا أحد جبل يحبنا ونحبه”.

هذه العاطفة التي تمتد إلى الجلاميد الصلاد هل يمكن أن يسبقها شيء في الحقوق بكل صورها؟.
وإذا كانت مبادئ الثورة الفرنسية (المقدسة) هي التي تحكم أوربا في مطالع القرن العشرين فلنر ثمرة ذلك.
لقد بلغ ضحايا هذه الثورة عشية ظهورها كما يذكر “فيليب دوفاليه” (مؤرخ فرنسي معروف): “أربع مائة ألف مواطن في غرب فرنسا وحدها”، وفى مصدر آخر أن هذه المذابح الثورية (أتت على سبع سكان فرنسا)، وقال أحد كبار الكتاب في الغرب “بيتر فايس”: “وضعنا ماكينة الثورة، لكننا لا نزال نجهل طريقة استعمالها” وأنا لا أدري إن كانت هناك ثورة حديثة قد تجاوزت هذا القول.
أما فكر الثورة الفرنسية -ونحن لا نزال في دائرة المراجع الفرنسية- فهو تأليه العقل(1).
وفى المصادر الغربية يقولون عن الثورة الفرنسية: “نصبت العقل معبوداً تقدم له القرابين وتقام له الشعائر”(2).
ولم يكن الغرب مجمعاً على تقديس هذه الثورة، فأهالي (فرساي) خذلوا كل توسلات “ميتران” للمشاركة في احتفالات الثورة، ونفر من شباب جامعة “السوربون” اقترحوا إقامة نافورة في ذكرى الثورة ترش الناس بالماء وأن يكتب عليها شعار الثورة معكوساً: غباء -حماقة-وحشية.
وإذا كان كلام الساسة المسلمين الذين شاركوا في أعراس باريس بمناسبة مرور قرنين على الثورة الفرنسية في أواخر يوليوز 1989م والذين لهم قرص في كل عرس، إذا كان كلام هؤلاء يصنف عادة أنه كلام “بروتوكولي” فالعجب العجاب يتأتى من كهنة الثقافة عندنا الذين يعدون بداية وجودنا وميلادنا الإنساني يوم دخلت خيول هذه الثورة مصر (1213-1215هـ/1798-1801م)، إن هذا الوجه الخادع للثورة الفرنسية جعل قطباً من أقطاب التاريخ المصري ينشد في بداية كفاحه الوطني 1895م: وهو مصطفى كامل ينشد ابتغاء الغوث من هذه الثورة:
أفـرنـسـا يا مـن رفـعــت الـبلايـا عـن شـعــوب تـهــزهـا ذكــراك
انصري مصر إن مـصر بـسـوء واحفظي النيل من مهاوي الهلاك
وانشري في الورى الحقائق حتى تجـتـلى الـخـيـر أمــة تـهـواك (3)
إن هؤلاء جميعاً من المبهورين بالثورة الفرنسية ينطبق عليهم قول “جومار” المشرف على بعثة الطهطاوي ورفاقه: “يظهر من فحوى كتاباتهم أنهم قبل أن يكتبوا يفكرون بعقل فرنسي لا بعقل عربي”.
إن هؤلاء جميعاً يعدون (محمد علي) 1182-1265هـ الأب الروحي للدولة العربية الحديثة الوليدة العربية للثورة الفرنسية، وإن رفاعة الطهطاوي الذي ولد في العام الذي انسحب فيه الفرنسيون من مصر 1801م-1873م هو المنظر الثقافي الأبرز لهذه الدولة ولتلك المرحلة.
وإن كان جمهور الكهنة في معابد الثقافة “الهلنستية” والغربية لا يزالون في حالة استغراق تام وهم يرتلون أسفار الثورة الفرنسية، فإن نفراً من الباحثين قد أخذ يقرأ هذه الثورة بعقل سليم معلنين أنها باتت من النفايات التاريخية وقد آن الأوان للدخول في مناقصة بيعها وتصفية ملحقاتها من علمانية وحقوق إنسان وغير ذلك من الأطر الجميلة لمضامين فارغة.
إن الحملة الفرنسية على مصر قد نبهت مصر إلى تاريخها الفرعوني للالتفاف على التاريخ الإسلامي، إن صورة فرعون “الديكتاتور” في القرآن كافية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
إن الحملة الفرنسية قد اصطحبت معها أكثر من (300) امرأة سافرة وكن أزواجا أو خليلات للجنود وكن معرضاً أو نموذجاً لما تريده الثورة الفرنسية للمرأة المسلمة في مصر وهو أن تحاكي هذه النماذج الهابطة الساقطة (4).
إن نابليون عمل من خلال المجلس الذي شكله لحكم مصر على نسف آيات المواريث التي تميز الرجال عن النساء (5)، وذلك كله كان الأرضية التي انطلق منها دعاة تحرير المرأة، ولقد كان الطهطاوي هو الجسر الأكبر الذي عبرت من فوقه أفكار الثورة الفرنسية.
والحق أن قراءة إسلامية لجهود الطهطاوي الفكرية باتت أمراً ملحاً لعدة أسباب:
– الثناء المطلق على الطهطاوي داعية ودعوة لدى كل حديث عن جذور النهضة ومن مختلف المنابر والمواقع الثقافية إلا من عصم ربك.
– أثر الطهطاوية في الحكم والحكومات العربية الحديثة والمعاصرة لأنه كان الجسر بين العرب والثورة الفرنسية، والانطلاق من دعوته وتجربته لتدعيم وترميم كل جسور التقارب مع الغرب.
– دعوته نقض وإجهاض لدور الشريعة وإلا فبم نفسر كونه (أول من كتب للمصريين في المباحث الدستورية، وعرب دستور فرنسا في ذلك الحين) ؟(6).
تترس العلمانيون واليساريون والتلفيقيون خلف الطهطاوية ليحتسبوا على الإسلام سيئات الحكم في العالم الإسلامي في كل الأعصار، إرجافاً لإبعاد الإسلام عن قيادة الحياة والمجتمع.
ترتب على مشروع محمد علي -والذي نفذه فكرياً الطهطاوي- انكماش وتهميش لدور الأزهر التاريخي وذلك لصالح المدارس والبعثات التي شكلت العمود الفقري للبنيان الثقافي الجديد، وألحق العلماء بهذا المشروع الجديد (7).
وإذا كانت إقامة رفاعة في فرنسا التي بدأت عام 1826م قد وضعته بصورة نهائية وتامة في صف المبهورين والمحامين عن فكر الثورة الفرنسية فإن ذلك ما كان ليتم لولا جهود شيخه شيخ الأزهر حسن العطار أيامئذ، هذا الشيخ (الذي فرَّ إلى الشام عشية دخول الفرنسيين مصر ثم عاد ليلتقي معهم ويتصالح مع الحضارة الغربية بل يتجاوز ذلك ليعجب بالفرنسيات ويتغزل بهن)، وهذا ليس كلام الدوائر الإسلامية بل سطره رأس من رؤوس الحداثيين في مصر صلاح عبد الصبور في كتابه (“قصة الضمير المصري الحديث” ص: 23-24)، ولو قال غير عبد الصبور هذا الكلام لنبز بالعري من الوعي وألبس حلة التطرف وكسوة التعصب.
وهكذا (كانت استجابة الطهطاوي الكاملة لما قدم له في فرنسا من أطعمة فكرية ومعتقدية).
إننا نتساءل لماذا أهمل دور الجهاد والقتال من قبل الشعب المصري ضد الحملة الفرنسية؟ ولماذا أغفل رفض قطاعات كثيرة من الشعب للتفرنس بكل صوره..؟
ولماذا كان البحث عن أسباب القوة خارج حدود المجتمع الإسلامي؟ وبالتالي لماذا لم يبحث الطهطاوي عن مصادر القوة داخل بنيان المجتمع الإسلامي وداخل الخزين الفقهي والمخزون الفكري الإسلامي؟
ألم تكن سياسة الهروب هذه تكملة وتتويجاً لحالة هروب وانقطاع تاريخيين للسلطة في العالم الإسلامي عن النموذج النبوي التاريخي من جهة، واستمراريته المتحققة في تيارات الأمة القاعدية في المرحلة التي تلت انقطاع رأس الهرم السياسي والفقهي الإسلامي عن النموذج النبوي الشريف) (8).
وإذا انطلت على الأذهان أكذوبة التحديث وأصالتها وفائدتها المحققة فإننا نتساءل عن ثمرتها على الأرض، هل كانت في هيمنة بريطانيا على مصر (المحدَّثة) لعشرات السنين؟
..يقول لويس عوض مقوِّماً رجالات عهد التحديث قديماً و حديثاً: “السادات وأبناء محمد علي فصيل واحد في الفساد، وهذان العصران من أسوأ عصور مصر، وعندما نتتبع العصرين سنجد أن التاريخ يعيد نفسه في الفساد والنهب وفتح البلاد على مصراعيها أمام القوى الخارجية”(9).
لقد انفتحت اليابان على الغرب، محتفظة بكل مقوماتها الذاتية واعتزازها بروحها ولغتها، فأخذت دون أن تدفع ضريبة معنوية، أما الانفتاح الطهطاوي فلم يبق ديناً، ولم يأت بدنيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 – السير كامو: تأليف جرمين بري، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا/243.
2 – قصة الضمير المصري الحديث: صلاح عبد الصبور.
3 – المصدر السابق 243.
4 – دراسات في تاريخ مصر الحديث 94، عمر عبد العزيز.
5 – المصدر السابق 187، وكان اسم المجلس (فرمان الشروط) والذي وصم كل أعضائه من المصريين بالخيانة بعد رحيل “نابليون”.
6 – في الأدب الحديث، عمر الدسوقي 26.
7 – مجلة الفكر العربي، بيروت، عدد 45، من مقال من أكمل ما قرأت في تحليل دور الطهطاوي د. حسن الضيقة بعنوان (الطهطاوي وعقيدة التحديث).
8 – من مقال: د الضيقة.
9- مجلة الشراع، عدد 369.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *