خـُلوف فم الصائم

مما يدل على فضل عبادة الصوم قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: “..لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك..”.
قال الشوكاني رحمه الله: “(لخُلوف) بضم الخاء، قال القاضي عياض: قيدنا عن المتقنين بالضم وأكثر المحدثين يفتحون خاءه وهو خطأ. وعده الخطابي في غلطات المحدثين، وهو تغير رائحة الفم” نيل الاوطار1/133.
وفي معنى قوله: “(أطيب عند الله) أقوال كثيرة كلها من باب الكتابات، وإخراج الكلام عن ظاهره وحقيقته، ومن ذلك قوله:المعنى: أن حكم الخلوف والمسك عند الله على خلاف ما عندكم، وقيل المراد: إن الله يجازيه في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك، أي أن الصائم ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك، وقيل المقصود: أن الخلوف أكثر ثوابا من المسك”. انظر نيل الأوطار 4/285.
والصحيح في ذلك، والموافق لطريقة السلف الصالح ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب 43، حيث قال: “ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى، كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه، فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوقين من ذلك، كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم، وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه، والعمل الصالح يرفعه وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا”.
(أطيب عند الله من ريح المسك) هذا فضل الصيام وثواب الصائم، انظر التمهيد 19/57.
وهو بذلك “يحضهم عليه (أي الصوم) ويرغبهم فيه” الاستذكار 3/375.
وقد اختلف هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة، فقال بالأول ابن الصلاح وبالتالي ابن عبد السلام، واحتج ابن الصلاح بما أخرجه ابن حبان بلفظ (فم الصائم حين يخلف من الطعام) وكذا أخرجه أحمد، وبما أخرجه أيضا الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي في الشعب من حديث جابر بلفظ (فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك.. واحتج ابن عبد السلام على ما قاله، بما عند مسلم وأحمد والنسائي: “أطيب عند الله يوم القيامة..” نيل الأوطار 4/285.
قال ابن القيم رحمه الله بعد ما حكى هذا الخلاف: “وفصل النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك الطيب يكون يوم القيامة فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال وموجباتها من الخير والشر، فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك.. وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلف وحين يمسون فلأنه وقت ظهور أثر العبادة…” الوابل الصيب 43.
قال الناظم:
خلوف في الصائم دون شك *** تَفضُل عند الله ريح المسك
فائدة
ذهب بعض الفقهاء إلى كراهة الاستياك للصائم بعد الزوال، وعللوا ذلك لئلا تزول رائحة الخلوف المستحبة. انظر “نيل الأوطار”1/125.
والصحيح استحباب الإستياك في أول نهار الصوم وآخره لظاهر السنة، واستدلال من ذهب إلى الكراهة بعد الزوال “لا ينهض لتخصيص الأحاديث القاضية باستحباب السواء على العموم” نيل الأوطار 1/133.
وقد أجيب عما ذكروه من تعليل “بأن السواء لا يذهب به الخلوف لأنه صار من خلو المعدة” انظر سبل السلام 1/15.
ومن دقيق استنباط الإمام النَّسائي رحمه الله فيما يخص هذا الباب قوله مترجما على حديث: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة” :”الرخصة في السواك بالعشي للصائم” 1/12.
ومعنى كلامه أن الصائم يستاك في آخر النهار لأن صلاة العصر تكون فيه، خلافا لمن قال بمنعه آخر النهار، لأنه يذهب الخلوف، وقد أثنى السندي رحمه الله على هذا الاستنباط فقال في حاشيته على سنن النسائي: “ولا يخفى أن هذا من المصنف استنباط دقيق وتيقظ عجيب، فلله درُّه، ما أدق وأحد فقهه”.
قال الإمام مالك رحمه الله: “لا أرى بأسا بأن يستاك الصائم في أي ساعة شاء من ساعات النهار” المدونة 1/271.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *