كيف غُـيِّب نظام الحسبة في مجتمعنا؟

إن الناظر في حال الأمم الماضية يعلم علم اليقين أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تفرد بنظام يشمل أمور الدنيا والآخرة، فهو نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي وديني، وقد وضع هذا الدين الحنيف للمجتمع ضوابط، ووضع له رقابة ترقب تصرف المجتمع وتحركه نحو تطبيق هذه الضوابط.

لقد استقبل المغاربة الإسلام بصدور رحبة نظرا لما وجدوا فيه من خير ونظام، بالإضافة إلى أنه حمل إليهم حكومة مجهزة بجميع الهيئات العسكرية والإدارية، بما فيها نظام الحسبة في الأسواق الذي يحقق عدالة اجتماعية قائمة على الالتزام بالأخلاق الإسلامية والتشبث بالتعاليم الإلهية التي تجعل الناس أمام الحق سواء، لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى. (الحسبة، طبع بأمر الملك الراحل الحسن الثاني، المطبعة الملكية، الرباط)
ومنذ ذلك الحين وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلعب دورا جوهريا في تطبيق شرع الله تعالى والذب عن حرماته وشعائره في البلاد، وكان الملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب -على اختلاف دولهم- يحرصون على توليت الثقات على الولايات العامة وأمر الحسبة، ويعملون على استشارت العلماء في ذلك، وخصوصا أصحاب الخطط الشرعية المكلفين منهم بالسهر على تطبيق التعاليم الإسلامية، وكمثال على ذلك ما قام به المولى الرشيد العلوي المؤسس الثاني للأسرة العلوية عندما افتتح مدينة فاس، وبايعه أهلها في ذي الحجة عام 1076هـ أن سأل عن أفضل علماء فاس وأسنِّهم، فلما أخبر بعبد الرحمن ابن القاضي، لم يترفع عن النزول إليه والاتصال به في أقرب محل من بيته بعد أن وصله اعتذاره من القدوم إليه لكبر سنه، فأمر بفتح نقب بحائط عرصة مصمودة، وهو المسمى الآن (درب الدروج) دخل منه السلطان، وبعد أن اجتمع بالشيخ والتمس منه صالح الدعاء، قال له:
“أتيتك لأستشيرك فيمن أوليه بفاس، من حاكم، وقاض ومتحسب، وناظر”، فقال له الشيخ: “أما الحاكم فلا أتقلده، والقاضي حمدون المزوار، والمحتسب عبد العزيز الفركلي الفلالي، والناظر العدل مسعود الشامي”.
واستمر الوضع على هذا الحال إلى أن تعرضت البلاد للاحتلال وتكالب الدول العلمانية عليها، وشيوع ما سمي بالحماية القنصلية أو الدبلوماسية، فعمل المحتل على تقويض هذه الشعيرة ومحاصرتها، وإنشاء مأسسات أخرى تقوم بهذه الوظيفة بعيدا عن إطار الدين.
ولما أمضيت سنة 1330هـ/1912م الاتفاقية المغربية الفرنسية التي أباحت لفرنسا أن تقترح على السلطان إدخال ما تراه مفيدا من الإصلاحات على المملكة المغربية كان من بين الإصلاحات التي اقترحها إحداث مصلحة قمع الغش التي صدر بها ظهير 23 ذي القعدة عام 1332هـ/1914م فاقتطع هذا “الإصلاح” أهم اختصاصات المحتسب..
واستمرت سلطات الاحتلال الفرنسي في إصدار القوانين العلمانية العلمانية التي ضيقت على القضاء الإسلامي والحكم بشريعة الإسلام بين المغاربة، ونظمت البلاد وفقها وأحدثت إدارات ومؤسسات أسندت لها بعض المهام التي كان يقوم بها العلماء والقضاة والمحتسبين، وعطلت كثير منها.
فبعد أن أحدثت المحاكم المخزنية التي كان يترأسها الباشوات في المدن، والقواد في الأرياف، سلبت المحتسبين كثيرا من الاختصاصات التي كانت راجعة إليهم، وصارت تنظر في كل القضايا الجنائية التي من جملتها ما يقع من مخالفات في ميدان المعملات، تلك التي كان المحتسب يحكم فيها بما أنزل الله ووفق الأعراف السائدة المقررة التي لا تتنافى مع الشرع الحنيف.
وعلى الجملة فإن المحتسب لم يبق له -في عهد الامتيازات والوصاية الأجنبية- دور مهم في النوازل التي كان يمارس الحكم فيها، وصار دوره قاصرا على إعطاء بعض القضايا الحرفية قبل الفصل فيها من قبل المحاكم المختصة، إن اقتضى الحال استشارته. (الحسبة، طبع بأمر الملك الراحل الحسن الثاني، المطبعة الملكية، الرباط)
ومباشرة بعد أن تخلص المغرب من الوصاية الأجنبية واسترجع حريته سنة 1956م حاول الملك محمد الخامس رحمه الله إحياء هذه الخطة التي كان لها الأثر المحمود في مختلف العصور بالبلاد المغربية، وأن يعيد لها سابق عزها ويقوم فيها بما هو معهود متعارف فأصدر الظهير الشريف المؤرخ في 19 شوال 1375هـ/1956م بإسناد الحسبة لمن عين لها ليجريها على المقتضى المتعارف والسنن المعهود، إلا أن المحتسبين واجهتهم مشاكل عديدة بعد التحرير ناتجة عن التشريعات والتنظيمات التي وضعت في عهد الوصاية الأجنبية (الاحتلال)، التي أسندت إلى عدة هيآت النظر في كثير من القضايا والنوازل التي كان النظر فيها مقصورا على المحتسب.
وبذلك صار عمل المحتسب وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مغيبة في المجتمع، وحلت محلها مؤسسات وهيئات حاولت القيام بجزء من وظيفة المحتسب بعيدا عن الدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *