كم من عرض بريءٍ قد قذف، وجاهِ شريفٍ قد نُسف، وكم من صالحٍ فُسِّق، ومُتَّبعٍ زُنْذق، نتيجة لخطأ التعامل مع الأخبار، ومرد ذلك كله: إلى أقوال تُقوِّلت، وأخبار لُفِّقت تساهل النَّاقلون في نشرها، وتغافل النَّاطقون عن ضررها، فاكتوى بنارها مُطهَّرٌ مظلوم، وابتُلي بعارها كُل ذي شرفٍ مروم، فمهلا.. يا رواة الأخبار فإن “التحقيق قليل، وطرق التنقيح في الغالب كليل، والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل”1.
وليعلم أن التصور2 المستقر في المدركات لم يكن إلهاما ولم يأت من فراغ، بل كان -ولا بد- له موارد خلصت إلى محل الإدراك كانت أساسا في إصدار الأحكام، ومن بين هذه الموارد الأخبار التي يتناقلها الناس فينبغي الوقوف عند حقيقتها، ومعرفة حال ناقليها فإن آفة الأخبار رواتها.
فمتى كانت الأخبار صحيحة كانت الأحكام صائبة، ومتى كانت الأخبار باطلة كانت الأحكام خائبة، وعليه احتاج كل ذي نظر دقيق إلى التدقيق والتحقيق في كل خبر من كل طريق، “لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب.. فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق”3.
وعليه لزم كل ناقل لخبر، أن يراعي ما ورد به الأمر، وهو التثبُّت في الأخبار، ومعرفةُ الصَّائب منها والكاذب، وهذا يسْتدعي تروِّياً عند سماعها، وبحثاً عن عللها وأوجاعها، فـ”المؤمن وقاف حتى يتبين”4.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
قال العلاَّمة السعدي رحمه الله مُقرِّراً معنى هذه الآية: “والتثبُّت في سماع الأخبار، وتمحيصها ونقلها وإذاعتها، والبناء عليها: أصل كبير نافع، أمر اللهُ به ورسولُه”6.
ومن ثَم كانت عاقبة التسرُّع فيها مذمومة، وآفةُ ذلك معلومة، ولذا فمن “التثبت: الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد، حتى يتضح ويظهر”7.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل، فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمر فادح، سواء كان قولا أو فعلا أو موقفا في حق مستور، فينبغي ألا يبالغ في إفشائه ويكتفي بالإشارة، لئلا يكون وقعت منه فلتة، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفا بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، فلا يرفع الوضيع ولا يضع الرفيع”8.
فالواجب إذن مراعاة لقاعدة التثبت اعتبار جملة من الأسس وهي:
أولا: التثبت من الناقل بالنظر إلى طويته وقصده، ولذلك آثار على ظاهره كما بينه شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: “والإيمان يعلم من الرجل، كما يعلم سائر أحوال قلبه، من موالاته، ومعاداته، وفرحه، وغضبه، وجوعه، وعطشه، وغير ذلك، فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة، والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة، وهذا أمر يعرفه الناس فيمن جربوه وامتحنوه”9.
فالنظر في الطوية أمر أساس عند التثبت في خصوص الناقل لما قد يكون بين الناقل والمنقول عنه من عداء أو حسد أو ما أشبه، مما يدفع إلى الذم والقدح، “فليس لك أن تظن بالمسلم شرا، إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل، فإن أخبرك بذلك عدل، فمال قلبك إلى تصديقه، كنت معذورا.. مع التنبه هل بينهما عداوة وحسد”10،
كما يجب التأكد من ضبطه، فقد يكون المرء عدلا في نفسه لكنه لا يضبط الأخبار، ولذلك جاء عن جمع من السلف أنهم يستسقون بأناس ولا يأخذون عنهم خبرا.
قال الخطيب رحمه الله: باب ترك الاحتجاج بمن لم يكن من أهل الضبط والدراية وإن عرف بالصلاح والعبادة.
ثم ذكر تحت هذا الباب جملة من الآثار، من ذلك عن أبي الزناد عن أبيه قال: “أدركت بالمدينة كذا وكذا شيخا كلهم ثقة وكلهم لا يؤخذ عنهم الحديث”11.
والأمر الآخر التأكد من عدالته وثقته12 فـ”من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة تبطلها”13.
وعليه فلا تجعلوا يا رواة الأخبار بطانتكم من النمامين، فإن من وشى إليكم اليوم يشي بكم غدا، ومثله ليس أهلا للثقة -لفسقه بالنميمة- وفي ذلك يقول ابن قدامة رحمه الله: “لا تصدق الناقل، لأن النمام فاسق، والفاسق مردود الشهادة”14.
ثانيا: التثبت من المنقول عنه بمراعاة أصل طريقته وسيرته فيما إذا نقل عنه كلام محتمل، فإن “الكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عنه”15.
ثالثا: التثبت في الكلام المنقول وذلك بالتفريق بين ضبط الخبر ونقله بالمعنى، فـ”كثير من الناقلين ليس قصده الكذب لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم”16، وكذا التحقق من الكلام المنقول هل هو من الذي يذم به المرء أو يمدح، ففي الكفاية باب في (بعض أخبار من استفسر في الجرح فذكر ما لا يصلح جارحا) منها: عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ فقال: “رأيته يركب على برذون فتركت حديثه!”17.
كما يلزم مراعاة الكلام العرفي، لأن “الخبرة بمدلولات الألفاظ ولا سيما العرفية التي تختلف باختلاف أعراف الناس وتكون في بعض الأزمنة مدحا، وفي بعضها ذما أمر شديد لا يعلمه إلا قعيد بالعلم”18، إضافة إلى تلمح سابق الكلام ولاحقه، كما قال السعدي رحمه الله مقررا ذلك: “وهذا الأصل واضح معلوم من لغة العرب وغيرها ومن العرف بين الناس، ولو لم يعتبر ما قيد به الكلام لفسدت المخاطبات وتغيرت الأحكام.. فكذلك نعتبر ذلك في كلام الناس ونحكم عليهم بما نطقوا به من إطلاق وعموم ومن قيود وتخصيصات”19، هذا مع الحذر من نسبة الأقوال والاعتقادات إلى الغير بناء على لازم القول فإن “لازم المذهب ليس بمذهب إلا أن يتلزمه صاحب المذهب”20.
فالتثبت يا رعاك الله والتبين هو الأصل الذي يبنى عليه نقل الخبر، وذلك دليل الكياسة والفطنة وكمال العقل وصحة النظر، فإن “أصل العقل التثبت”21، فما “اعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم، ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة لأن الإنسان بالتثبت يطول تفكيره فتعرض على نفسه الأحوال وكأنه شاور، وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.
وأشد الناس تفريطاً من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة، خصوصاً فيما يوجبه الغضب فإنه بنزقه طلب الهلاك أو استتبع الندم العظيم..
فالله الله، التثبت التثبت في كل الأمور والنظر في عواقبها، خصوصاً الغضب المثير للخصومة..”22.
واعلم أن الذي لا يتخلق بخلق التثبت تجده مبتلى بالحكم على المقاصد والنوايا والقلوب دون موجب علم ولا قرائن قوية، وذلك مخالف لأصول التبين، لأن “الحكم بين الناس يقع على ما يسمع من الخصمين، بما لفظوا به، وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك”23.
فيا هذا تمهل فإنه “من الغلط الفاحش الخطر: قبولُ قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبني عليه السَّامعُ حُبًّا وبُغْضاً، ومدحاً وذمًّا؛ فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أموراً لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنُميت بالكذب والزُّور، وخصوصاً من عُرفوا بعدم المبالاة بالنَّقل، أو عُرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبُّت والتحرُّز وعدم التسرُّع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله”24.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. مقدمة ابن خلدون رحمه الله 4.
2. يقول ابن القيم رحمه الله: “..التصورات تدعوا إلى الإرادات، والإرادة تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة..” الفوائد 306.
3. المقدمة لابن خلدون رحمه الله 9-10.
4. كما قال الحسن البصري رحمه الله، انظر الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 10/382.
5. قال الشيخ عبد الفتاح بن عبد الغني القاضي رحمه الله: ” قرأ حمزة والكسائي: (إن جائكم فاسق بنبأ فتثبتوا) في سورة الحجرات، وقرأ الباقون بـ(فتبينوا) وقراءة حمزة والكسائي مأخوذة من الثبت بمعنى التثبت وعدم العجلة، وقراءة الباقين مأخوذة من البيان أي التبين، والمعنيان متقاربان” الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع 247-248.
6. الفتاوي السعدية 66.
7. فتح القدير للشوكاني رحمه الله 5/60.
8. ذيل التبر المسبوك للسخاوي رحمه الله 4.
9. منهاج السنة 8/ 474-475.
10. ابن قدامة رحمه الله في مختصر منهاج القاصدين 175 بتصرف.
11. الكفاية للخطيب رحمه الله 1/158.
12. ينبغي التفريق عند هذا المقام بين خبر الثقة، وحكم الثقة فتأمل فإنه مهم لما نتج بسبب الغفلة عنه أو الجهل به من الخلط والشطط.
13. قاله أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله في أحكام القرآن 4/1715.
14. مختصر منهاج القاصدين 190.
15. المدارج 3/521.
16. منهاج السنة 6/303.
17. الكفاية للخطيب رحمه الله 1/111.
18. قاعدة في الجرح والتعديل للسبكي رحمه الله 46، وقيل أن لفظة (قعيد) محرفة والصواب (فقيه) والله أعلم.
19. القواعد والأصول الجامعة 62/63.
20. الفتاوي 5/306.
21. الأدب الصغير لابن المقفع رحمه الله 168.
22. صيد الخاطر 374.
23. كما قال الإمام الشافعي رحمه الله انظر الفتح 13/175.
24. الرياض الناظرة للسعدي رحمه الله 272.