“..البدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ” رشيد مومن الإدريسي

التعصب معم للحقائق..

مما تراه العيون النواظر، وتتفطر له القلوب الحواضر، حال أدعياء الإصلاح زوراً، والمُتفيْهقون به ظلماً وجوراً: لم يجدوا من مجالاته إلاَّ القصد إلى الاختلاف الموحش الوضاح، وهتْك أعراض أهل الفضْل والفلاح، والتَّشهير بهم في كُلِّ وادٍ ونادٍ مساءَ صباح، فغدا إصلاحهم إفساداً، وصار نُصْحهم ليس إرشاداً.

فالدعوة تتأخَّر بهم أصالة لا بغيرهم، فهم بالإصْلاح أوْلى، وإلى منْ يُصْلحهم أحق وأحْرى.
وأساس بليتهم بعد الجهل التعصب والعدوان، الذي هو من دلائل ضعف الإيمان.
قال الإمام الشَّوكاني رحمه الله: “وأهم ما يُحصِّله لك (أي: الإيمان): أن تكون مُنْصفاً لا مُتعصِّباً في شيءٍ من هذه الشريعة؛ فإنها وديعةُ الله عندك، وأمانتُه لديك، فلا تخنها وتمحق بركتها بالتعصُّب..”1.
وعليه فمن عوامل الاختلاف القاتل، والفرقة المدمرة، والتباغض الذي لا يبقي من الود شيئا التعصب لغير الحق، وهو التعصب الممقوت، الذي يمكن تعريفه بأنه: “عدم قبول الحق عند ظهور دليله”2.
فهذه الخصلة المذمومة شيمة من شيم الضعف وخلة من خلال الجهل يبتلى بها الإنسان فتغلق عليه منافذ المعرفة، وتعطل قدرته على المحاكمة، ويعمى بصره عن رؤية الحقيقة، ويحسن في نظره القبيح، ويقبح في نظره الحسن..
واعلم أن التعصب لازمه ادعاء العصمة للنفس أو للغير ففيه ما فيه من خطل الرأي، ومجانبة الصواب لأن مُؤَداه أن يصير المُتَعَصب له شارعا لا متشرعا وهو باطل، فـ”السالك من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم، وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو عمل الجاهلية، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله”3.
واعلم أن طريق المتعصب: الصد عن معرفة دليل المخالف، أو الاستماع إليه، أو اعتباره في النظر بأي وجه من الاعتبار، بينما المطلوب ألا يكون بما “قال أعنى منه بما خالفه حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك”4.
وقد يصل التعصب لدى البعض إلى أن يرد قول مخالفه حتى وإن استبان له أن الحق متعين فيه، وهو ما أدرك عليه الإمام الفندلاوي المالكي رحمه الله بعض من صنف في الخلاف في زمانه، وإليه يشير بقوله: “وبعد فإني رأيت بعض من تعلق بمسائل الجدل، وتخلق بزعمه باستنباط العلل، إذا ذوكر في شيء من مسائل الخلاف، خرج عن مسلك العدل والإنصاف، حتى لا يتصف بشيء من تلك الأوصاف، وإنما يحرص على المغالبة أو الوصم في حق الخصم، وهو مع ذلك يتحقق بفهمه أن الصواب مع خصمه”5.
هذا كما أن العصبية تدعوا إلى كتمان الحق رغم ظهوره كما قرره شيخ الإسلام رحمه وهو يذكر صورا مما يبتلى به المنتسبون للعلم فيقول: “..وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة، أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه، وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل”6.
فالتعصب إذن أساسه الجهل والاعتساف، وإتباع الهوى والخروج عن الإنصاف، ولذا وصف ابن القيم رحمه الله أهل العلم والعدل بكونهم: “زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إخراج المتعصب عن زمرة العلماء إليه ولا يسألونه عما قال برهانا”7.
فيا أيها الأخ الكريم إذا كنت قد خرجت عن دائرة العامية إلى حظيرة العالمية، فأنت أولى بترك هذه الخصلة الدنية، حتى لا تكون سببا لما يستقر في قلوب العوام من الاعتقادات الردية فإن “أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهلة أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين8 محوها مع ظهور فسادها.. ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء، لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل”9.
وإذا فسدت مناهج العامة بسبب بعض الخاصة، اشتدت العصبية في الدين10، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين بعد أن “لقنهم إلزامات بعضهم ببعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بقيعة، فيا لله وللمسلمين من هذه المغامرة التي هي أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين”11.
وعليه كم وجد من جهالة الأتباع في تحريم أو تبديع أو تكفير.. ما لم يوجد عند شيوخهم “فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ”12.
ومن تم كان من قبيح أنواع التعصب الذي يؤدي إلى الإجحاف والخروج عن حدود الإنصاف العصبية للشيوخ، حتى أغفل الكثيرون عند هذا الصدد الفرق بين التقدير والتقديس ومن وقائع هذا الأخير ما حكاه الماوردي رحمه الله حيث قال:” ولقد رأيت..رجلا يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة، فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة، ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه!!”13.
فالحق يا هذا لا يعرف بالرجال14، اعرف الحق تعرف أهله، فلا تتعصب إلا للحق، ولا تتحزب إلا للصدق، فإنه “من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال، فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكا طريق الحق وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بين الناس، فلا تغفل الصحابة وعلو منصبهم”15.
قال ابن الجوزي رحمه الله: “اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة!
واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر لما قال وهذا عين الضلال، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه لحارث بن حوط وقد قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟
فقال له: يا حارث! إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله”16.
فالحق لا يعرف بالرجال —— بل عرفوا بالحق في الأقوال
فالحذر الحذر أن تكون ممن على آذانهم وقر التقليد، وعلى قلوبهم رين التعصب البليد، وتمسك بالحق المبين، واسلك سبيل أئمة الدين الموقعين عن رب العالمين، “فإن التعصب مذهب للإخلاص، مزيل لبهجة العلم، معم للحقائق، فاتح باب الحقد والخصام الضار، كما أن الإنصاف هو زينة العلم، وعنوان الإخلاص والنصح والفلاح”17.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. انظر طلب العلم وطبقات المتعلمين 7.
2. قواعد الفقه للبركتي 231.
3. مجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 11/28.
4. كما قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة 510.
5. مقدمة نص التهذيب 3-4.
6. اقتضاء الصراط المستقيم 1/73.
7. إعلام الموقعين 1/706.
8. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “ومن تدبر أصول الشرع علم أنه يتلطف بالناس في التوبة بكل طريق” تفسير آيات أشكلت 2/595.
9. من قالات أبي حامد الغزالي رحمه الله نقلا عن كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي رحمه الله 2/452-453، وعلق الشاطبي رحمه الله عليها قائلا: “هذا ما قال. وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية، فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك”.
10. ذلك لأن “التحقيق مع العوام صعب، ولا يكادون ينتفعون بمر الحق” صيد الخاطر لابن الجوزي رحمه الله 31.
11. من قالات الإمام الشوكاني رحمه الله كما في السيل الجرار 4/584.
12. كما قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوي 8/425.
13. أدب الدنيا والدين 70.
14. مع العلم أن العلماء وسائل وطرق وأدلة بين الناس والرسول عليه الصلاة والسلام، كما قال الشاطبي رحمه الله: “إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه” الاعتصام 548، وانظر الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 20/224، وإرشاد النقاد للصنعاني رحمه الله 105، والروح لابن القيم رحمه الله 357.
15. الإحياء للغزالي رحمه الله 1/22.
16. تلبيس إبليس 77 منتقاه، وانظر أقاويل الثقات 228، وصيد الخاطر 36-37.
17. الفتاوي السعدية 459.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *