مما هو معلوم عند من وهبهم الله الهدى إلى شرعه ومنهاجه، سلامة أسس الاستدلال عند الصحابة الكرام دون ارتجاجه، لأخذهم بدلائل الحق ومعرفتهم بمقاصده وقواعد حجاجه، فأقام الله بهم صرح الإصلاح فصاروا نجوم سماء الإسلام وجواهر تاجه، وأئمة الدين الذين أضحى بهم أفق العلم إثر بزوغ فجره وانبلاجه.
وعليه فقد “كان المسلمون عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه، غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا”1، والعاقبة للحق وأصحابه.
فمسلك أسلافنا الأول شريعة ومنهاجا قائم على الكتاب والسنة، عنهما يصدرون، وإليهما يتحاكمون، وبهما يحتجون، ومن خلالهما يُقعدون ويُؤصلون، بعيدا عن انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الغالين.
هكذا كان حال الأصحاب العظام، ومن تربى على سيرتهم من التابعين الكرام، حتى إذا كان آخر عهدهم بدأت الانحرافات تطل برأسها على خلاف الطريق القويم، والنهج السليم، من تقديم المعقول على المنقول، وترك ما دل عليه صريح التنزيل إلى مزالق التأويل، والاستبداد بالرأي مقابل ما بلغنا عن نبينا عليه الصلاة والسلام من الهدي، والميل مع الهوى في معارضة الهدى.
فصارت على إثر ذلك فرق ونحل، لكل منها منهج خاص، خالفت به أهل الحق ومن لهم به اختصاص، وقد أراد الله كونا وقدرا لهذه الفرق والنحل على اختلاف مشاربها الذيوع والانتشار، فَسَرت اتجاهاتهم وأفكارهم وسمومهم في المسلمين إلى وقتنا الحاضر فتبناها أناس فأحيوها ونافحوا عنها ودعوا غيرهم إليها بعدما زينوا أمرها.
(كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
والناظر في شأن هذه المشارب وأهلها يقف وقفة المتعجب الحائر حيث تدعي كل فرقة ونحلة أنها على الحق المبين، ومسلك المهتدين، وهم جميعا قد “عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم يختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين”2.
الناس شتى وآراء مفرقة كل يرى الحق فيما قال واعتقدا
وفي خضم ذلك كله لا تزال طائفة على الحق ظاهرين، لسيرهم على منهج السلف الصالحين، ووفق مسلكهم المتين، أخذا بما دلت عليه السنة والآثار وما أصله الكتاب المبين.
“فمن بنى الكلام في علم الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبي الأمين”3.
وهكذا حال أهل السنة والحديث بخلاف غيرهم ممن يقعد قاعدة ويقول: “هذا هو الأصل، ثم يرد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة، فلعمر الله، لهدم ألف قاعدة لم يؤصلها الله ورسوله أفرض علينا من رد حديث واحد”4.
والسر في صحة منهج أهل السنة والحديث مراعاتهم للقواعد والأصول الكلية التي كان عليها السلف الصالح أهل الإصابة، ففيها الاعتصام بالسنة والجماعة.
“فيجب على المسلم أن يراعي القواعد الكلية التي فيها الاعتصام بالسنة والجماعة، وأصح الناس في ذلك هم علماء الحديث الذين عرفوا السنة واتبعوها”5.
فـ”أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة؛ الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها 6، وأهل معرفة بمعانيها، واتباعا لها تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه”7.
ومن تم نقول أنه صح لأهل السنة والحديث ذلك لسلامة منهج استدلالهم في أمور الدين، المبني على العلم النافع، وجودة الفهم، وسداد الأصول، مع صحة الدافع، فأسمى العلوم وأرسخها “أدقها قوانين، وأثبتها قواعد”8، ذلك لأن “أدهى ما يعترض سالك السبيل هو أن يمشي بغير دليل”9.
فلا منهج بدون علم، ولا علم بدون عمل، ولا عمل دون فهم مثمر واستيعاب منظم لأن “المهم هو ما بعد ذلك من تحليل وتعليل وتركيب”10.
وآفة المناهج عدم الاعتماد على الدليل الصحيح وسلوك المسلك القبيح، وآفة “فقد الدليل أن يمشي الإنسان على غير سبيل وينتمي إلى غير قبيل”11.
فالمعلوم من أمر الشريعة أنها متضمنة لأصول السير في هذا السبيل، فجاءت دعوتها صريحة إلى تبين ما يميز بين النجدين ويضمن السعادة في الدارين، فجعلت أمر التبيّن فيه منوطا بالتزود من العلم، كما جعلت شرط التحقق به أن يؤخذ على بينة من سلامة السبيل وصدق صحة الدليل.
ومن تمام صحة السلامة في العلم استحضار منطق التبين، وهذا يتطلب حسن اختيار المنهج.
ولذا فالنجاة في منهج أهل السنة والحديث الذي هو “مذهب السلف.. والسنة والجماعة”12 وطريقة أهل الأثر كما دل عليه الخبر.
وفي ذالك قال السفاريني رحمه الله ناظما:
اعلم هديث أنه جاء الخبر عن النبي المقتفى خير البشر
بأن ذي الأمة سوف تفترق بضعا وسبعين اعتقادا والمحق
ما كان في نهج النبي المصطفى وصحبه من غير زيغ وجفا
وليس هذا النص جزما يعتبر في فرقة إلا على أهل الأثر13
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب شرف أصحاب الحديث14: “قد جعل الله تعالى أهله (أي: أهل الحديث) أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي عليه الصلاة والسلام وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتخير إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء..”.
فكان من الضروري إيضاح منهج الاستدلال عند أهل السنة والحديث، حتى يظهر عوار المخالفين له جهارا من أهل الأهواء والمبتدعين، ويتجلى فساد مناهج المضادين له عيانا من المفسدين والعلمانيين، كما ينكشف حال من ينتسب إليهم بالمقال بعيدا عن الحقيقة أو دون إحكام15، ولكي يطمئن أهل الحق بطريقهم، ويثبتوا على مسلكهم ومنهجهم16، فالزمان زمان وقوع، والمتمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر، ولكن الأجر فيه بحول الله جزيل لمن أخذ بالتأصيل والدليل، ورب العزة بحفظ الحوزة كفيل، فلا عليكم يا أهل الحق فإن الله معكم ما قصدتم وجه الله بأعمالكم، وثابرتم على اتباع هدي نبيكم وسيرة سلفكم، فإن رضى المخلوق لا يغني من الله شيئا، والله سبحانه يتولاني وإياكم بما تولى به عباده الصالحين.
وللبحث بقية..
ــــــــــــــــــــــــــ
1. الفرق بين الفرق لابن طاهر البغدادي رحمه الله 12.
2. من خطبة الإمام أحمد رحمه الله في أول الرد على الزنادقة والجهمية 52.
3. مجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 10/2631 بتصرف يسير.
4. إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله 2/368.
5. مجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 22/67.
6. فالأمر كما قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “كان الفقهاء قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث” تلبيس إبليس 127 منتقاه.
7. مجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 22/67.
8. نشأة المصطلحات الفلسفية في الإسلام 556.
9. الموافقات للإمام الشاطبي رحمه الله 1/22 بتصرف.
10. مصطلحات النقد العربي 22.
11. الموافقات للإمام الشاطبي رحمه الله 1/22.
12. درء التعارض لابن تيمية رحمه الله 1/203.
13. لوامع الأنوار البهية 1/74- 76.
14. ص: 8.
15. قال العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله في أمثال هؤلاء: “والذين ينتسبون إلى الحديث في هذا الزمن تعدوا الجادة، وتكلموا في الأئمة، ووقعوا في جهل وهوى” فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله 1/200.
16. قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك وإن امتحنوا بأنواع المحن وفتنوا بأنواع الفتن” 4/50.