الامتحان بالأشخاص.. “معرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس وتارة تكون بالجرح والتعديل وتارة تكون بالاختبار والامتحان” رشيد مومن الإدريسي

من المسائل التي خاض فيها كثير من الناس في زماننا هذا دون ضبط ولا تصور ولا فهم، بل بالظن والجهل والوهم مسألة الامتحان بالأشخاص1، فهاجت الفتن المضلة، والمحن المدلهمة، وتٌكُلّم في الأمر تأصيلا وتنزيلا دون أهلية ولا اختصاص. 

فسيرا على المنهج والمسلك المعتبر، ورجاء في الاجتماع والتآلف المنتظر، رأينا إيضاح الأمر وتبيانه في هذا المقال المختصر فنقول سائلين من الله تعالى صحة النظر:
الامتحان في اللغة: من امتحن فلانا أي: اختبره وابتلاه، والشيء نظر فيه ودبره، والفضة محنها، ويقال: امتحن فلان وقع في محنة2.
أما في الاصطلاح فسنبينه بالمثال لا بالحد3 ومن ذلك قول سفيان الثوري رحمه الله: “امتحنوا أهل الموصل بالمعافى فمن ذكره يعني بخير قلت: هؤلاء أصحاب سنة وجماعة. ومن عابه قلت: هؤلاء أصحاب بدع..”4.
وعليه فالامتحان بالأشخاص هو وسيلة من وسائل معرفة حال المُمتَحَن، وفي ذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله:” ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس، وتارة تكون بالجرح والتعديل، وتارة تكون بالاختبار والامتحان”5.
وإذا كان الامتحان بالأشخاص عند الحاجة من جملة الوسائل كما بيناه فحكمه قد يختلف على حسب الحال والمقام فإن الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذا الأخير “أصل كبير.. وبه نعلم أن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون وما يتوقف الحرام عليه فهو حرام، ووسائل المكروه مكروهة”6.
إلا أن هذا الباب ككثير من الأبواب المنهجية حصل فيها غلو قابله خلو، وتضييع قابله تمييع حيث أن بعض الناس أنكروا الامتحان بالأشخاص جملة وتفصيلا، وبعض آخر امتحن الناس بكل أحد بلا ميزان علمي ولا معيار أثري فشاع النزاع وانحل نظام الاجتماع، ولذا فمن البدع “التفريق بين الأمة بما لم يأمر الله به ولا رسوله عليه الصلاة والسلام7″8.
فالحق الأبلج والصواب في هذا النهج أن الامتحان بالأشخاص له متعلق بمن كان رأسا في جماعته، وعَلَما في طائفته سواء كان من أهل السنة السنية أو من أهل البدعة الردية، والعمدة في ذلك صنيع السلف الصالح، حيث لم يعلم عنهم العمل بذلك مع كل أحد9 فالزم يا رعاك الله الطريقة المرضية10.
يقول الإمام البربهاري رحمه الله: “إذا رأيت الرجل يحب أيوب، وابن عون، ويونس بن عبيد، وعبد الله بن إدريس الأودي، والشعبي، ومالك بن مغول، ويزيد بن زريع، ومعاذ بن معاذ، ووهب بن جرير، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وزائدة بن قدامة: فاعلم أنه صاحب سنة.
وإذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل، والحجاج بن منهال، وأحمد بن نصر ذكرهم بخير: فاعلم أنه صاحب سنة”11.
ثم قال رحمه الله في حق الامتحان ببغض أهل البدعة: “إذا رأيت الرجل يذكر ابن أبي دؤاد، والمريسي، أو ثمامة، وأبا الهذيل، وهشاما الفوطي أو واحدا من أتباعهم وأشياعهم12 فاحذره فإنه صاحب بدعة..”13.
وإناطة الأمر بمن كان رأسا عَلَما في طائفته لأن الطعن مثلا فيمن هو من مشاهير أهل السنة وإماما من أئمتهم طعن في طريقة أهل الحق فإن الإمام في جماعته يمثل نهجها ومسلكها14 كما قيل: “هذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معيارا يفرقون به بين أهل السنة والبدعة”15.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: “وأهل السنة والحديث16 في كل مكان وزمان هم محنة أهل الأرض ويمتاز أهل السنة والجماعة بمحبتهم والثناء عليهم ويعرف أهل البدعة والاختلاف بعيبهم وشناءتهم، وما أحسن ما قيل في إمام السنة شعرا:
أضحى ابن حنبل محنة مأمونة وبحب أحمد يعرف المتنسك
وإذا رأيت لأحمد متنقصا17 فاعلم بأن ستوره ستهتك”18
ومن الشبه الواردة على مسألة امتحان الناس بمن هو رأس في السنة مثلا أنه ما من أحد ولو كان إماما في طائفته إلا وقد تُكُلم فيه مما يلزم منه أنه معيار عند من مدحه وليس كذلك عند من ذمه فدل على عدم صحة ميزان هذا الامتحان!!
فنقول جوابا: لا شك “أن أهل القبلة كلهم مؤمنهم وفاسقهم؛ سنيهم ومبتدعهم -سوى الصحابة-لم يجمعوا على مسلم بأنه ناج، ولم يجمعوا على مسلم بأنه شقي هالك، فهذا الصديق فرد الأمة قد علمت تفرقهم فيه، وكذلك عمر وكذلك عثمان، وكذلك علي، وكذلك ابن الزبير وكذلك الحجاج، وكذلك المأمون، وكذلك بشر المريسي، وكذلك أحمد بن حنبل، والشافعي، والبخاري، والنسائي، وهلم جرا من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه19، وما من رأس في البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له، ويذبون عنه ويدينون بقوله بهوى وجهل19، وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل، المتصفين بالورع والعلم20″21.
مع التنبه أنه “كما قيل في يحيى بن معين: من أبغض يحيى، فهو كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا على سبيل العموم والإجمال، أما على سبيل التعيين: فلا نجزم بتهمة شخص في دينه لبغضه علما من أعلام السنة، حتى نستوفي معه الشروط، وننفي الموانع”22.
فهذا خلاصة ما يمكن ذكره حول هذا الموضوع الجلل، عسى أن يكون سببا لعدم تفشي الظلم في خصوصه والزلل، وترك الاشتغال بما لا يعني والحرص على العمل، والنظر في مسائل المنهاج بلا استعجال بل بمهل، بعيدا عن الظن والتخمين وما يوقع في الخلل، سائلين الله تعالى الثبات على الحق إلى حين الأجل.
………………………………
1. مما ينبغي التنبه له: التفريق بين الامتحان بالأشخاص والامتحان للأشخاص فكثير من الناس يخلط بينهما، فالامتحان للأشخاص -عند الحاجة- امتحان للعقيدة والمنهاج، ويدخل في عمومه الامتحان بالمقالات السائرة التي اتُخذت معيارا للسنة أو البدعة، وهذا الامتحان هو بدوره وسيلة، والوسائل لها أحكام المقاصد مما يدل أن الأحكام الخمسة تجري عليه عموما فتنبه.
ومن دلائل صحته قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح للسوداء الأعجمية: أين ربك؟ فأشارت إلى السماء فقال: “اعتقها فإنها مؤمنة”.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “فامتحنها بالإيمان فوجدها مؤمنة فقال عليه الصلاة والسلام: (اعتقها فإنها مؤمنة) فامتحانه إياها بالإيمان دليل على أن الواجب لا يتأدى إلا بالمؤمنة” العلو 1/247، المبسوط 5/43، مجموع الفتاوي 5/192.
2. انظر المعجم الوسيط 2/856.
3. قال شيخ الإسلام رحمه الله: “التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق” الفتاوي 13/338.
4. تهذيب الكمال 28/153.
5. الفتاوي 15/330.
6. كما قال العلامة ابن ناصر السعدي رحمه الله في الرسالة اللطيفة في أصول الفقه المهمة ص: 56 فما بعدها مع التعليقات المنيفة.
7. ومن ذلك مما له علاقة بامتحان الأشخاص (لا الامتحان بالأشخاص): الامتحان بالألفاظ المجملة وفيها قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ليس لأحد أن يمتحن الناس بلفظ مجمل ابتدعه هو من غير بيان لمعناه” الفتاوي الكبرى 6/346.
ومنه كذلك ما رواه ابن عساكر رحمه الله في تاريخه بسنده: “أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه وعقد له المجلس، فحسده من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه واجتماعهم فقيل لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحنوه به في المجلس فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه فقال الرجل: يا أبا عبد الله وأعاد عليه القول فأعرض عنه ولم يجبه ثم قال في الثالثة فالتفت إليه محمد بن إسماعيل وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة فشغب الرجل وشغب الناس وتفرقوا عنه” تاريخ دمشق.
8. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 3/415.
9. ومن أمثلة ذلك ما ورد في قول شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: “وقد يشتبه يزيد بن معاوية بعمه يزيد بن أبي سفيان فإن يزيد بن أبي سفيان كان من الصحابة، وكان من خيار الصحابة وهو خير آل حرب، وكان أحد أمراء الشام الذين بعثهم أبو بكر رضي الله عنه في فتوح الشام ومشى أبو بكر في ركابه يوصيه مشيعا له فقال له: يا خليفة رسول الله: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: لست براكب ولست بنازل إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. فلما توفي بعد فتوح الشام في خلافة عمر ولى عمر رضي الله عنه مكانه أخاه معاوية وولد له يزيد في خلافة عثمان بن عفان وأقام معاوية بالشام إلى أن وقع ما وقع، فالواجب الاقتصار في ذلك، والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة فإنه بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة وأنه من أكابر الصالحين وأئمة العدل وهو خطأ بَيِّن” الفتاوي 3/413- 414.
10. انظر السراج الوهاج 63.
11. شرح السنة 220 – مع شرحه.
12. أي: ممن صار رأسا فتنبه.
13. شرح السنة 220 – مع شرحه.
14. في السراج الوهاج 62: “لا يلزم من قولي: (من تكلم في فلان -على ماسبق تفصيله- فاتهمه على الإسلام) أن فلانا هذا معصوم من الخطأ. كل يؤخذ من قوله ويرد”.
15. كما قال شيخ الإسلام في الفتاوي 3/414.
16. عن محمد بن إسماعيل الترمذي رحمه الله قال: كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل فقال له: يا أبا عبد الله ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث، فقال: قوم سوء. فقام أبو عبد الله وهو ينفض ثوبه، فقال: زنديق.. زنديق.. زنديق، ودخل بيته.
قال الحاكم رحمه الله في معرفة علوم الحديث ص: 4 معلقا: “وعلى هذا عهدنا في أسفارنا وأوطاننا كل من ينتسب إلى نوع من الإلحاد والبدع، لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة ويسميها الحشوية”.
17. وهذا عام في حق كل إمام من أئمة السنة والحديث كمالك والشافعي وغيرهما.
18. إتمام المنة والنعمة في ذم اختلاف الأمة 59.
19. وهذا على وجه التمثيل والغالب وإلا فقد يعرض لبعض العلماء من ذلك تأويلا فتنبه.
20. فتأمل هذا الضابط وبالعلم تجمل.
21. من قول الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء 14/342- 344.
22. السراج الوهاج ص:62، ولذا لما نقل الإمام الذهبي رحمه الله قول الإمام ابن معين رحمه الله أنه قال: “إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة، وفي حماد: فاتهمه على الإسلام”.
علق قائلا: “هذا محمول على الوقوع فيهما بهوى وحيف -في وزنهما-، أما من نقل ما قيل في جرحهما وتعديلهما على الإنصاف فقد أصاب” السير 5/18.
مع التنبيه أن أمر توفر الشروط وزوال الموانع لا بد من اعتباره كذلك عموما في من انتصر لإمام من أئمة البدعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *