العبرة بالمقالات لا بالقائلين.. “من أتاك بحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبا حبيبا” رشيد مومن الإدريسي

ليس في الحق محاباة لأحد من الناس، فالحق حاكم لا محكوم أو للاستئناس، وعليه فإن الحق لا يرتبط بالأشخاص عند من اتصف بالإنصاف وترك الإجحاف بخلاف “عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال، لا الرجال بالحق، والعاقل يقتدي بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث قال: لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله(1)، والعارف العاقل يعرف الحق، ثم ينظر في نفس القول: فإن كان حقاً قبله سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً”(2).

فمن بلغه الحق أو نصحه به ناصح(3) فالواجب الامتثال بالنظر إلى ذات المقال كما قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في معرض كلامه على الاعتماد في تفسير آيات الأحكام على الراجح بالدليل من أقوال الأئمة الأعلام: “ونرجح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل من غير تعصب لمذهب معين، ولا لقول قائل معين، لأننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله، لأن كل كلام فيه مقبول ومردود، إلا كلامه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيرا”(4).
قال الدمياني رحمه الله(5):
انظر إلى القول لا تنظر لقائله **** فإن صادقه يغنيك عن نسبه
الحق يسطع مثل الصبح منبلجا **** ومن يباريه يبدو الوهن في خيبه
والشعر ليس يزيد الحق مرتبة **** وغيره لا يحط الحق عن رتبه
فمن سار وفق هذا المسلك الأثري تجنب حال أهل الضلال الذين يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تأمل فيما قال، إضافة إلى أنه “من فوائد ذلك: أن الأقوال التي يراد المقابلة بينها ومعرفة راجحها من مرجوحها تتم بقطع الناظر والمناظر النظر عن القائلين، فإنه ربما كان ذكر القائل مغترا عن مخالفته، وتوجب له الهيبة أن يكف عن قول ينافي ما قاله”(6).
فاحرص يا رعاك الله على الحق والرجوع إليه “فليس الذي يقول الخير ويفعله بخير من الذي يسمعه ويقبله”(7)؛ بل “لا تصح لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحب وممن تبغض فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك”(8).
قال ذو النون المصري رحمه الله: “ثلاثة من أعلام التواضع: تصغير النفس معرفة بالعيب، وتعظيم الناس حرمة للتوحيد، وقبول الحق والنصيحة من كل أحد”(9).
وقد ورد في الخبر الصحيح(10) أن حبرا من الأحبار قال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون.
قال عليه الصلاة والسلام: سبحان الله وما ذاك؟ قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة..
فتقبل رسول الله عليه الصلاة والسلام الأمر وأمر أصحابه: (فمن حلف فليحلف برب الكعبة).
وقال الحبر أيضا: يا محمد: نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله ندا.
قال عليه الصلاة والسلام: سبحان الله وما ذاك؟ قال: تقولون ما شاء الله وشئت.
وتقبل رسول الله عليه الصلاة والسلام الأمر وأمر أصحابه: (فمن قال: ما شاء الله فيقل معها: ثم شئت).
ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله أن في الحديث من الفوائد: “قبول الحق ممن جاء به وإن كان عدوا مخالفا في الدين”(11).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد(12): ألا كل شيء ما خلا الله باطل”.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الحق يقبل حتى لو كان من الشعراء، فالحق مقبول من كل أحد جاء به، حتى لو كان كافرا وقال بالحق فإنه يقبل منه، ولو كان شاعرا أو فاسقا وقال بالحق فإنه يقبل منه.
وأما من قال بالباطل فقوله مردود ولو كان مسلما، يعني العبرة بالمقالات لا بالقائلين، ولهذا ينبغي على الإنسان أن ينظر إلى الإنسان من خلال فعله لا من شخصه”(13).
وعلى أصل العدل والقسط هذا؛ يؤكد شيخ الإسلام رحمه الله هذا المفهوم بقوله: “وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق”(14)، فعليك أيها المسلم أن تتبع “هدي النبي عليه الصلاة والسلام في قبول الحق ممن جاء به من ولي وعدو وحبيب وبغيض وبر وفاجر ويرد الباطل على من قاله كائنا من كان”(15).
قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أوصني بكلمات جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال له: “..ومن أتاك بحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا، ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبا حبيبا”(16).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مؤصلا: “..وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين وغيرهم، نقول بجميع ما يقوله في هذا الباب وغيره، والحق يقبل من كل من تكلم به.
وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في سننه(17): (اقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافرا -أو قال فاجرا-، واحذروا زيغة الحكيم.
قالوا : كيف نعلم أن الكافر يقول الحق؟
قال: إن على الحق نورا)..” (18).
مع التحذير في هذا السياق من رد الحق ممن جاء به بدعوى اعتقاد أهل البدع له وعملهم به ذلك أن “القول الذي يعد من أقوال أهل البدع ما خالف كتاب الله، أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، أو إجماع الأمة إما الصحابة أو من جاء بعدهم.
وأما قول يوافق الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة فلا يعد من أقوال أهل البدع وإن دانوا به واعتقدوه(19)، فالحق يجب قبوله ممن قاله، والباطل يجب رده على من قاله”(20).
فتلقى عبدَ الله سلطان الحق بالخضوع له، والانقياد والدخول تحت رقه، فإن كل من أعرض عن شيء من الحق اتباعا للهوى وقع في الباطل مقابل ما أعرض عنه من الحق وتولى؛ فالجزاء من جنس العمل؛ والنجاة والسلامة في الصواب والهدى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “ينبغي أن يعرف الشيء في نفسه، فلا كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص ولذلك قال علي رضي الله عنه: لا تعرف الحق بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله” الإحياء 1/55.
2. المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي رحمه الله 7.
3. تنبه إلى هذا الكلام فإنه لا يجوز أن نقصد للسؤال في أمر الدين من ليست له الأهلية في ذلك كما قال ابن سيرين رحمه الله: “إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم” مقدمة صحيح مسلم.
وعليه فعدم اعتبار الرجال مطلقا غير سديد لأن الله تعالى أحالنا عليهم بشرطه فقال سبحانه: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون).
4. أضواء البيان 1/6.
5. انظر الصوارم والأسنة للشنقيطي رحمه الله ص:113.
6. المناظرات الفقهية للسعدي رحمه الله ص:68 بتصرف يسير.
7. كما قال الإمام ربيعة الرأي رحمه الله انظر جامع بيان العلم وفضله ص:536.
8. قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين 2/350.
9. انظر شعب الإيمان 7/522.
10. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت رقم:1166.
11. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص:200-201.
12. قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله عن لبيد: “..فأسلم وحسن إسلامه -ثم ذكر الحديث أعلاه- وقال: وهو شعر حسن وفي هذه القصيدة ما يدل على أنه قالها في الإسلام والله أعلم” الاستيعاب 3/336.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله متعقبا الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “قلت ولم يتعين ما قال بل فيه دلالة على أنه كان يؤمن بالبعث مثل غيره من عقلاء الجاهلية.. وكيف يخفى على أبي عمر أنه قالها قبل أن يسلم مع القصة المشهورة في السيرة لعثمان بن مظعون مع لبيد لما أنشد قريشا هذه القصيدة بعينها فلما قال: ألا كل شيء..، قال له عثمان: صدقت. فلما قال: وكل نعيم لا محالة زائل، قال له عثمان: كذبت نعيم الجنة لا يزول، فغضب لبيد.. إنما كان هذا قبل أن يسلم لبيد، نعم ويحتمل أن يكون زاد هذا البيت بخصوصه بعد أن أسلم ويكون مراد من قال: أنه لم ينظم شعرا منذ أسلم يريد شعرا كاملا لا تكميلا لقصيدة سبق نظمه لها وبالله التوفيق” الإصابة 3/25.
13. شرح رياض الصالحين 3/381، الطبعة التي أشرفت عليها مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية.
14. منهاج السنة النبوية 3/343.
15. كما قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين 1/147.
16. انظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم رحمه الله 3/586.
17. انظر صحيح سنن أبي داود 3/121.
18. مجموع الفتاوي 5/101.
19. يقول ابن القيم رحمه الله: “ومشاركة أهل الباطل للحق في المسألة لا يدل على بطلانها، ولا يكون إضافتها لهم موجبة لبطلانها ما لم يختص بها” مفتاح دار السعادة 1/169.
20. قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح 595.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *