خطوات الاستدلال بالدليل عند أهل السنة والحديث “ضبط مبحث العام والخاص1” الحلقة التاسعة عشرة رشيد مومن الإدريسي

من المهم معرفته في منهجية الاستدلال عند أهل السنة والحديث مبحث العام والخاص لضبط مفهموم دلالات الألفاظ على وفق مراد الله تعالى، ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام، فنقول وبالله التوفيق:

العام في اصطلاح الأصوليين: هو “اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له دفعة واحدة وبحسب وضع واحد من غير حصر” اهـ.
وقولهم: – المستغرق لجميع ما يصلح له: (مثاله) “الرجــال” فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له اللفظ، فإن كل رجل في الدنيا يدخل في عموم كلمة “الرجــال” فإنها تستغرق كل ما يطلق عليه “رجــل”.
– دفعة واحدة: أي أن الاستغراق في العام شامل لجميع أفراده في آن واحد، ليخرج بذلك المطلق، إذ استغراقه بدلي دفعة واحدة، مثاله: (رجال) فهذه اللفظة لا تدل على استيعاب كل رجل في الدنيا، فإذا قلنا: جاء رجال: فلم يفهم بهذا أنه جاء كل رجل، كما أنه لا يفهم أنه جاء بعض الرجال بأعيانهم، وهذا بخلاف لفظة (الرجال) فإنها تشمل كل رجل في الدنيا.
– بحسب وضع واحد: يخرج بهذا القيد “المشترك” كالقرء والعين فإنه بوضعيـن أو أكثر.
– من غير حصر: خرج بذلك أسماء الأعداد كعشرة ومائة.
ومن المقرر في مذهب السلف الصالح -رضي الله عنهم- أن للعموم ألفاظا تخصه، ومن ذلك لفظ: كل، وجميع، ومن، وما، والنكرة في سياق النفي أو الشرط، والمعرف بالألف واللام لغير العهد مفردا وجمعا إلى غير ذلك.
مثل صيغة “كل”: كقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ).
مثل صيغة “جميع”: جاء القوم جميعهم.
مثل صيغة “من” كقوله تعالى: (وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ).
مثل صيغة “ما” كقوله تعالى: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ).
مثل صيغة النكرة في سياق النفي أو الشرط، أما الأولى كقوله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ)، وأما الثانية كقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقا..) الحديث.
مثل صيغة المعرف بالألف واللام لغير العهد، كقوله تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ..).
وقد اتفق العلماء على أن دلالة العام قطعية على أصل المعنى، واختلفوا في دلالته على أفراده على قولين:
القول الأول: أن دلالة العام على أفراده ظنية ظاهرة.
القول الثاني: أن دلالة العام على أفراده قطعية.
ومن المباحث المهمة في الباب: هل يتمسك بالعموم دون البحث عن وجود مخصص له؟
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “.. وأما إذا كان المَدرك هو النصوص العامة، فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة: هل هي من المستخرج أو من المستبقـى؟ وهذا أيضا لا خلاف فيه.
وإنما خالف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صورة معينة منه: هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له؟
فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وذكروا عن أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم.
وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن معارض”.
وقد ثبت باستقراء النصوص أن العام ثلاثة أقسام:
– عام يراد به قطعا العموم: وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه كالعام في قوله تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا)، ففي هذه الآية تقرير لسنة إلهية عامة لا تخصص ولا تتبدل.
– عام يراد به قطعا الخصوص: وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه، وتبين أن المراد منه بعض أفراده، مثل قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، فالناس في هذا النص عام مراد به خصوص المكلفين، لأن العقل يقضي بخروج الصبيان والمجانين.
– عام مخصوص وهو العام المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه ولا قرينة تنفي دلالته على العموم، وهذا ظاهر في العموم حتى يقوم الدليل على تخصيصه، مثاله قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ..) الآية.
وليعلم كذلك أن الخطاب الخاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- عام حكمه للأمة إلا إذا دلّ الدليل على اختصاصه به.
وإذا ورد لفظ العموم على سبب خاص لم يسقط عمومه سواء كان السبب سؤالا أو غيره، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومما اشتهر بين الأصوليين فيما ينزل منزلة العموم، عبارة تنسب إلى الشافعي -رحمه الله- ونصها: “ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ويحسن به الاستدلال”2.
أما الخاص فعرف اصطلاحا بقولهم:”كل لفظ وضع لمعنى معلوم على الانفراد”.
فمثلا: لفظ “محمد” فهو واحد بالشخص، و”رجل” واحد بالنوع، و”حيوان” واحد بالجنس، وكذلك الألفاظ الموضوعة لكثير محصور كـ”الرهط والنفر”، وكأسماء الأعداد، كـ عشرة ومائة”..
وينبغي أن يعلم أن الخاص في جهة وكلا من التخصيص والمُخصص في جهة أخرى، فإنهما متلازمــان ومتحدان إذ لا يقع تخصيص إلا بوجود مخصِص، ولا يوجد مخصَص إلا وينشأ عنه تخصيص، فإن التخصيص، هو العملية ذاتها، وأما المخصِص فهو ركن أساس في عملية التخصيص فتنبه.
وقد انعقد الإجماع على جواز تخصيص العموم من حيث الجملة.
أي: “نجعل الحكم الثابت للعام مقصورا على بعض أفراده بإخراج البعض الآخر عنه، كقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ)، فهذا عام في جميع أولاد المخاطبين، وعام في كل ولد، فخص الأول بقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إنا معاشر الأنبياء لا نورث”، فأخرج أولاد الأنبياء من عموم أولاد المخاطبين”.
وليعلم أن القاعدة العامة في التخصيص أنه لا يصح إلا بدليل صحيح، وكما يجب العمل بالدليل المخصِص -إذا صح- في صورة التخصيص وإهدار دلالة العام عليها، فلا يجوز والحالة كذلك حمل اللفظ العـــام وإبقاؤه على عمومه، بل تبقى دلالة العام قاصرة على ما عدا صورة التخصيص.
وحيث لا تعارض بين العام والخاص: عُمل بكل منهما.
مثاله: قوله -صلى الله عليه وسلم- في شاة ميمونة: “دباغها طهور” [رواه مسلم] فهذا خاص، مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: “أيما إهاب دُبغ فقد طهر” [رواه مسلم] وهذا عام، فهنا يعمل بكل منهما، إذ الخاص هنا لم يخصص العام لموافقته له، وهو فرد من أفراده، ويسمى (موافق العام).
وحيث ظن تعارضهما: خُص العام بالخاص. مثاله: قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ)، فإنه خاص مع قوله تعالى: (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ) فإنه عام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “ومعلوم من الأصول المستقرة إذا تعارض الخاص والعام فالعمل بالخاص أولى، لأن ترك العمل به إبطال له وإهذار، والعمل به ترك لبعض معاني العام” اهـ.
واعلم أن المخصصات (التي هي أدلة التخصيص) على نوعين:
متصلة ومنفصلـــة.
أما المتصلة على سبيل الاختصار فهي:
– الاستثناء: كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ).
– الشرط: كقوله تعالى: (إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ) فعلق قصر الصلاة على حصول الشرط وهو الضرب في الأرض، ولولا الشرط لجاز القصر مطلقا حضرا وسفرا.
– الصفة: كقوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)، فلفظة “فتياتكم” عامة خصصتها الصفة “بالمؤمنات”.
– الغايــة: كقوله تعالى: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ).
– البدل: أي “بدل البعض” مثاله قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، فلفظ الناس عام يشمل المستطيع وغير المستطيع، فلما ذكر بعده بدل البعض خصصه بالمستطيع.
أما المنفصلة فهي على جهة الإيجاز:
– النــص: مثاله قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ)، خصص منه أولات الأحمال بقوله تعالى: (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
– الإجمــاع: مثل قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، خص منه الولد الرقيق بالإجماع : والمراد بالتخصيص بالإجماع: مستند الإجماع لا الإجماع نفسه.
– القياس: مثل قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ)، فإن عموم الزانية خص بالنص، وهو قوله تعالى في الإماء: (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، وأما عموم الزاني فهو مخصص بقياس العبد على الأمة لعدم الفارق.
– الحــس: كقوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)، أي بكل شيء قابل للتدمير فيخرج من هذا العموم السماوات والأرض بدليل أننا نشاهدهما باقيتين.
– العقـــل: كقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فهو قطعا لم يخلق نفسه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر الأصول للسرخسي (01/124)، وكشف الأسرار للنسفي (01/26)، وروضة الناظر (05/159)، ومجموع الفتاوي (06/446)، وأضواء البيان (05/71)، وشرح الكوكب المنير (03/386)، والمذكرة 218، ومختصر ابن اللحام 123 في آخرين.
2- هناك فرق بين هذه القاعدة وقاعدة ” الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال ” فلكل منهما مجاله على التحقيق، وبيان ذلك وبسطه فيه شيء من الطول ليس هذا محله.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *