من القواعد العَلية لدى أهل السنة السَنية الحب والبغض في الله، فهم يوالون أولياء الرحمن ويعادون أولياء الشيطان، وكل بحسب ما فيه من الخير والشر والعدوان.
ومن أولى مقتضيات هذه القاعدة الإعراض عن أهل البدع والأهواء، ومعاداتهم وزجرهم بالهجر دون اعتداء1، وذلك لعلة مخالفتهم للحق وتحقيقا للبراء، فـ”الصحابة رضوان الله عليهم آثروا فراق نفوسهم لأجل مخالفتها للخالق -سبحانه وتعالى-، فهذا يقول: “زَنَيْت فطهرني، ونحن لا نسخو أن نقاطع أحدا فيه لمكان المخالفة!!”2.
ومن تم صار هجر صاحب الابتداع من أمور الديانة بلا نزاع3، مُقَرَرا مسطورا في كتب أهل السنة والاتباع فهم “يبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت بالقلوب ضرت وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت..”4.
وحديثنا عن الهجر5 الشرعي الذي تحقق موجبه6 لا عن الهجر الدنيوي الذي عُلم شرعا حده وموضعه، فينبغي على المرء “أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق نفسه. فـ(الأول) مأمور به، و(الثاني) منهي عنه7، لأن المؤمنين إخوة.. فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر”8.
وعليه “أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان كذلك فقد رُخص له مجانبته ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية”9.
قال الإمام السيوطي رحمه الله: “قال النووي في شرح مسلم: (وردت الأحاديث بهجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة وأنه يجوز هجرانهم دائما والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائم) اهـ. وما زالت الصحابة والتابعون فمن بعدهم يهجرون من خالف السنة أو من دخل عليهم من كلامه مفسدة وقد ألفت في ذلك كتابا سميته الزجر بالهجر فيه فوائد”10.
يقول تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} هود.
قال الإمام القرطبي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: “الصحيح في معنى هذه الآية أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة”11.
ومن السنة الصحيحة في الباب12 حديث كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم وهو حديث طويل عن كعب ذكر فيه قصة تخلفه عن الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك وهجر النبي عليه الصلاة والسلام له ولصاحبيه وفيه: “ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف، فاجتَنَبَنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة..”.
والفائدة منه “العلم أن تحريم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث إنما هو فيما يكون بينهما من قبل عتب وموجدة، أو التقصير يقع في حقوق العشرة ونحوها، دون ما كان من ذلك في حق الدين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مر الأوقات والأزمان، ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق، وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه في غزوة تبوك، فأمر بهجرانهم وأمرهم بالقعود في بيوتهم نحو خمسين يوما على ما جاء في الحديث إلى أن أنزل الله سبحانه توبته وتوبة أصحابه فعرف رسول الله عليه الصلاة والسلام براءتهم من النفاق”13.
فالهجر الشرعي -إذن- قائم لتحقيق جملة من المقاصد الحكيمة، والفوائد الجليلة، من ذلك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المناهج الشنيعة، وبعث اليقظة في النفوس حتى لا تقع في البدع الخبيثة، وتحجيم انتشارها حفظا للمسالك الصحيحة، وصيانة للطرق السليمة، كما القصد قمع المبتدع وزجره ليضعف عن نشر البدع القبيحة، ولنعطي الحصانة للسنن والآثار النبيلة.
أما “توقير صاحب البدعة14 فهو مظنة لمفسدتين تعودان بالهدم على الإسلام:
إحداهما: التفات العامة والجهال إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم.
والثانية: أنه إذا وُقِِّر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء.
وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه..”15.
وليعلم أن الهجر الشرعي من العبادات التي لا بد من توفر ركنيها وهما:
أولهما: الإخلاص وهو ميزان الأعمال في باطنها.
ثانيهما: المتابعة وهي ميزان الأعمال في ظاهرها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “..إذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صوابا، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرا غير مأمور به كان خارجا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله”16.
وصدق من قال 17:
واهجر ولو كل الورى في ذاته لا في هواك ونخوة الشيطان
واهجرهم الهجر الجميل بلا أذى إن لم يكن بد من الهجران
فلا تعجل -عبد الله- في دعواك للهجر المشروع، دون إحكام لشروطه بل بالهوى الممنوع، فتصير بذلك عن الهدي الصحيح مقطوعا، دون علم أكيد يضيء لك الشموع، وبلا برهان واضح ولا خبر مسموع، بعيدا عن الإخلاص والأخذ بسنة النبي المتبوع.
وللبحث بقية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. وهذا إشارة إلى الهجر الجميل، وحقيقته كما قال ابن عاشور رحمه الله هو: “الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى، ولما كان الهجر ينشأ عن بُغض المهجور، أو كراهية أعماله كان مُعَرضا لأن يعتلق به أذى من سب أو ضرب أو نحو ذلك فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجرا جميلا، أي أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبا أو انتقاما” التحرير والتنوير 29/268، وانظر مدارج السالكين 2/160.
2. كما قال ابن عقيل رحمه الله انظر الآداب الشرعية 1/307.
3. قال الإمام البغوي رحمه الله: “وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم” شرح السنة 1/227.
4. عقيدة السلف أصحاب الحديث لأبي إسماعيل الصابوني رحمه الله 100، ولا يخفى عند أهل النظر الدقيق، وأصحاب التحقيق أن كلام الصابوني هذا خرج مخرج تقرير شرعية الهجر لأهل البدع والتبديد، وإلا فالعموم الذي ورد في كلامه له قيود وشروط من حديد، سيأتي معنا بعضها إن شاء الرب المجيد.
5. الهجر في اللغة ضد الوصل، وكذلك الهجران.
وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة..” معجم مقاييس اللغة لابن فارس رحمه الله 6/34
6. يقول ابن مفلح رحمه الله: “يُسن هجر من جهر بالمعاصي: الفعلية، والقولية، والاعتقادية؛ الآداب الشرعية 1/247، وفيما يخص هجر الكافر مبحث انظره في فتح الباري لابن حجر رحمه الله10/496-497، و هجر المبتدع للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد رحمه الله 14.
7. يقول عليه الصلاة والسلام: “لا يحل لمسلم أن يهجر مسلما فوق ثلاث..” السلسلة الصحيحة.
وهذا “الهجر لثلاثة أيام أو ليال رَخص فيه الشارع مراعاة لنفوس البشر حينما يُسيء بعضهم معاملة بعض، أو حينما يختلفون فيشتط بهم الخلاف إلى حد الغضب، والذي غالبا ما يعقبه هجر أو قطع” حكم الهجر والقطع بين الحلال والحرام في الشرع لصالح العود 56.
8. الهجر الشرعي ما يحل منه وما يحرم لابن تيمية رحمه الله إعداد أشرف بن عبد المقصود 14-16 بتصرف يسير.
9. التمهيد للحافظ ابن عبد البر رحمه الله 6/127.
10. تنوير الحوالك 709.
11. الجامع لأحكام القرآن 9/108.
12. متفق عليه.
13. معالم السنن للخطابي رحمه الله 4/296.
14. أما حديث: “من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام” فهو في السلسلة الضعيفة برقم: 1862، وكذا في ضعيف الجامع برقم: 5877، ومتنه “معروف عن الفضيل بن عياض رحمه الله” كما ذكره ابن تيمية رحمه الله في الفتاوي 18/346.
15. الاعتصام للشاطبي رحمه الله 1/74.
16. الفتاوي 28/207.
17. وهو الإمام ابن القيم رحمه الله في نونيته 1/56- مع شرح الهراس.