قواعد في الجرح والتعديل.. “..الرجل إذا ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا إذا كان مفسَّرا بأمر قادح” رشيد مومن الإدريسي

قاعدة الجرح المفسر مقدم على التعديل ليست على إطلاقها، بل لها قيود وضوابط توجد في ثنايا كلام الأئمة وتقريرات العلماء الأجلة، فمن المقرر عند أهل العلم أن “كل رجل ثبتت عدالته، لم يقبل فيه تجريح أحد، حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه”1، وعليه فالجرح المفسر يقدم على التعديل إذا كان ثابتا تبينا تحققه فتنبه، وإلا فقد يكون الجرح مفسرا بما لا يثبت، فكم قد طُعن في علماء كبار بأمور لا حقيقة لها، وكتب التراجم والرجال طافحة بذلك2.

كما أن الجرح وإن كان مفسرا ثابتا، لكن قد لا يقبل لأنه غير قادح حقيقة فـ”في الجملة فالرجل إذا ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا إذا كان مفسرا بأمر قادح”3.
يقول العلامة المعلمي رحمه الله في معرض رده لكلام بعضهم: “..ومنه ما هو جرح غير مفسر أو مفسر بما لا يقدح أو غير مثبت”4.
ومن القيود كذلك الدالة على عدم اطراد تلكم القاعدة قبول الجرح المفسر بشرط أن لا يكون الجارح متحاملا على من جرحه لحسد أو منافسة دنيوية ونحو ذلك؛ كما قال العلامة ابن السبكي رحمه الله: “إن الجارح لا يقبل جرحه ولو فسره فيمن غلبت طاعته على معاصيه، ومادحوه على ذاميه، ومزكوه على جارحيه، إذا كانت هناك قرينة5 يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الذي جرحه من تعصب مذهبي ومنافسة دنيوية، كما يكون من النظراء6 أو غير ذلك”7.
وربما كان الجرح المفسر معارضا بتعديل جامع لشروط المعارضة حيث يقوى على طرح ذلك الجرح كالطعن في الأئمة الكبار الذين استقرت إمامتهم وتربعوا على عرشها، وتواترت عدالتهم كمالك والشافعي.. ومسلم والبخاري.. وغيرهم ممن بلغ مقامهم وكان في طبقتهم وفيهم “يقول أئمة الجرح والتعديل: ..(فلان لا يسأل عن مثله) فإن تكلموا فيهم بتوثيق، أو تليين، أو نحو ذلك، فإنما يعنون به التعريف بمقدار حفظهم، وأنهم في العليا من مراتب الحفظ أو الوسطى”8.
ومثاله قول تاج الدين السبكي رحمه الله في حق الإمام ابن معين رحمه الله: “ولا نقبل قوله في الشافعي9 ولو فسر وأتى بألف إيضاح لقيام القاطع على أنه غير محق بالنسبة إليه، فاعتبر ما أشرنا إليه في ابن معين وغيره”10.
قال الناظم 11:
ولتعلمن محققا لن يقبلا **** جرح إمام صيته قد اعتلى
فابن أبي ذئب كلامه رمي **** في مالك كذا النسائي ارتمي
في أحمد بن صالح ونزكا ****الشافعي ابن معين فاتركا
ومن التنبيهات المهمة لعدم قبول الجرح المفسر كذلك: أن يكون للمجروح عذر رافع للجرح والمؤاخذة كأن يكون مجتهدا أو متأولا ذلك أن “من كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا من كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وجماهير أئمة الإسلام”12.
ومن وقائع ذلك قول الإمام الذهبي رحمه الله: “إبراهيم بن سعد: من أئمة العلم وثقات المدنيين كان يُجوز سماع الملاهي، ولا يجد دليلا ناهضا على التحريم، فأداه اجتهاده إلى الرخصة، فكان ماذا؟!”13.
ولا نغفل أيضا في هذا المقام أنه لا يقبل قول المتشدد المتعنت14 في جرحه ولو فسره حيث هو كذلك غالبا حتى مع من يعرض له أدنى زلل مما لا يقتضي الجرح أصلا، فـ”إن هناك جمعا من أئمة الجرح والتعديل لهم تشدد في هذا الباب15، فيجرحون الراوي بأدنى جرح ويطلقون عليه ما لا ينبغي إطلاقه عند أولي الألباب، فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر وجرحه لا يعتبر إلا إذا وافقه غيره ممن ينصف ويعتبر”16.
وفي الختام نقول:
لعل ما سطرناه -يا رعاك الله- يكشف لك أن هذا الباب لا بد فيه من قواعد وضوابط ذات بال، توضح لك أجوبة على أكثر من سؤال، وتجنبك سوء التصرف والخطأ في المقال، وتبين لك زلل كثير ممن خاض في ذلك على استعجال، والموفق الرب الكريم ذي الجلال، فهو حسبي عليه توكلت وإليه المآل.
……………………………
1. قاله الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله كما في تهذيب التهذيب 7/273.
2. انظر واقعة الإمام البخاري مع محمد بن يحيى الذهلي رحمة الله عليهما في سير أعلام النبلاء 12/457.
3. كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 1/189، ولذلك ألف الإمام الذهبي رحمه الله كتابه الذي سماه: “الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد”، وانظر الحاشية رقم:10 للحلقة الماضية.
4. التنكيل 1/437، مع التنبه أن الجرح أصلا لا يقبل من مجروح فسر جرحه أو لم يفسره كما هو معلوم لا يخفى.
5. مما يدل على أن ذلكم التحامل تدل عليه القرائن القوية.
6. قال الإمام الذهبي رحمه الله: “كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس” ميزان الاعتدال 1/111.
7. توضيح الأفكار 2/163.
8. كما قال العلامة ابن الوزير رحمه الله في الروض الباسم 1/216.
9. هذا على القول أنه قصد الإمام الشافعي رحمه الله لأنه قيل أن: “ابن معين لم يرد الشافعي وإنما أراد ابن عمه ” كما في قاعدة في الجرح والتعديل للسبكي رحمه الله 23 – ضمن أربع رسائل في علوم الحديث.
10. طبقات الشافعية 2/22، وقال الإمام الذهبي رحمه الله :”قد آذى ابن معين نفسه بذلك، ولم يلتفت الناس إلى كلامه في الشافعي، ولا إلى كلامه في جماعة من الأكابر” ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق 49.
11. إيضاح السبيل 58- 59.
12. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 23/346.
13. الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم 37-38.
14. والتساهل في باب الجرح والتعديل خروج عن الجادة كذلك كما قال ابن حجر رحمه الله في نزهة النظر 192: “وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل. فإنه إن عدل أحداً بغير تثبت، كان كالمثبت حكماً ليس بثابت، فيخشى عليه أن يدخل في زمرة (من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب). وإن جرح بغير تحرز، فإنه أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك، ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبداً، والآفة تدخل في هذا تارة من الهوى والغرض الفاسد -وكلام المتقدمين سالم من هذا غالباً- وتارة من المخالفة في العقائد”.
15. قال الإمام الذهبي رحمه الله في بيان أقسام النقاد: “منهم من نَفَسه حاد في الجرح، ومنهم من هو معتدل، ومنهم من هو متساهل” الموقظة .
16. كما قال اللكنوي رحمه الله في اللزوم والتروي في قبول جرح النقاد للراوي 274- 275.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *