منهج الموازنة.. “من أراد أن يقوِّم الرجل ويذكر حياته فالواجب أن يذكر حسناته وسيئاته” رشيد مومن الإدريسي

لا شك أن الذب والحفاظ عن منهاج السنة وأهلها بالطرائق المرضية من الأصول العلمية المقررة في الكتاب والسنة النبوية، وتأصيلات السلف السوية، ولا يظن فيمن شم رائحة العلم، وكان له حظ من الفقه والفهم بعيدا عن الظن والوهم أن يخالف في تِلكُم المسالك، ومن ذلك إحكام ما له تعلق بذكر حسنات المخالف وسيئاته، وضبط قواعده وتصور مجالاته.

فكثير من الناس قد خرجوا عن جادة الوسطية والاعتدال في هذا المقام، ولم يحققوا الاتزان فخرجوا إلى طرفي الإفراط أو التفريط وانحرفوا عن سبل الكرام، مع أن “العدل واجب لكل أحد على كل أحد في جميع الأحوال، والظلم لا يباح منه شيء بحال حتى إن الله تعالى قد أوجب على المؤمنين أن يعدلوا على الكفار في قوله سبحانه: (اعدلوا هو أقرب للتقوى)”1، فكيف الحال مع أهل الإسلام والهدى؟!
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “(أصل عظيم) وهو: أن تعرف الحسنة في نفسها علما وعملا، سواء كانت واجبة أو مستحبة، وتعرف السيئة في نفسها علما وقولا وعملا محظورة كانت أو غير محظورة -إن سميت غير المحظورة سيئة- وإن الدين تحصيل الحسنات والمصالح، وتعطيل السيئات والمفاسد.
وأنه كثيرا ما يجتمع في الفعل الواحد أو في الشخص الواحد الأمران، فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه إحداهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية.
فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائما بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان”2.
وعليه فرَّق أهل العلم والعرفان في خصوص ذكر السيئات والحسنات بين مجالين اثنين: مجال التقويم أو الترجمة3 ومجال الرد والتحذير، فعند المجال الأول لا بد -تحقيقا للعدل- من ذكر ما للرجل وما عليه -إذا دعت الحاجة إلى ذلك4- للموازنة بينهما عند إرادة الترجيح، كما قال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله: “إذا اجتمع في أخبار رجل واحد معان مختلفة من المحاسن والمناقب والمطاعن والمثالب وجب كتب الجميع ونقله وذكر الكل ونشره، لما أخبرني محمد بن الحسين أنا دعلج أنا أحمد بن علي الأبار نا علي بن ميمون الرقي العطار نا مخلد بن حسين عن هشام عن ابن سيرين قال: “ظلمت أخاك إذا ذكرت مساوئه ولم تذكر محاسنه”5.
إذن فصفوة المقال في هذا المجال أن “من أراد أن يقوم الرجل ويذكر حياته، فالواجب أن يذكر حسناته وسيئاته”6.
أما في مقام التحذير فلا يستدعي الأمر التعرض للحسنات في الأصل، لأن الغاية فيه إنكار أنواع الأباطيل، ومختلف التضليل حتى لا يغتر الناس7.
فذكر الحسنات في هذا المجال يضعف قيمة الرد ويهون من خطر الباطل، فلا تذكر إلا المخالفة والبدعة فيه8 بعد التبيّن من كونها كذلك شرعا فإن ” رد الشيء قبل فهمه محال”9.
ومن الأدلة على هذا حديث عائشة رضي الله عنها: “أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة. فلما جلس تطلَّق النبي عليه الصلاة والسلام في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة يا رسول الله: حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة متى عهدتني فحاشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره”10.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يتعرض في هذا الحديث إلى ذكر حسنات الرجل فتأمل.
قال الإمام النووي رحمه الله: “قال القاضي: هذا الرجل هو عيينة بن حصن، ولم يكن أسلم حينئذ، وإن كان قد أظهر الإسلام، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين حاله ليعرفه الناس، ولا يغتر به من لم يعرف حاله. قال: وكان منه في حياة النبي عليه الصلاة والسلام وبعده ما دل على ضعف إيمانه، وارتد مع المرتدين، وجيء به أسيرا إلى أبي بكر رضي الله عنه.
ووصف النبي عليه الصلاة والسلام له بأنه بئس أخو العشيرة من أعلام النبوة؛ لأنه ظهر كما وصف، وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام. وفي هذا الحديث مداراة من يتقى فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه، ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه، ..ولم يمدحه النبي عليه الصلاة والسلام، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام”11.
ومنه فـ”من أراد النصح والتحذير من بدعته وخطره فلا يذكر الحسنات12 لأنه إذا ذكر الحسنات فهذا يرغب الناس بالاتصال به”13.
إلا أن هذا التقعيد في مقام الرد والتحذير له استثناء على حد قول العلماء: “من القواعد عدم اطراد القواعد”14، ذلك أنه إذا دعت الحاجة وتحققت المصلحة لذكر الحسنة في هذا المجال كذلك فهو أمر حسن كما قال العلامة ابن باز رحمه الله: “المعروف في كلام أهل العلم نقد المساوئ للتحذير وبيان الأخطاء التي أخطؤوا فيها للتحذير منها، أما الطيب معروف.. لكن المقصود التحذير من أخطائهم، الجهمية.. المعتزلة.. الرافضة.. وما أشبه ذلك، فإذا دعت الحاجة إلى بيان ما عندهم من حق يبين”15.
ومما تدعوا إليه الحاجة في هذا الباب ما ورد في كلام للشيخ كذلك يرحمه الله حيث قال: “الواجب على أهل العلم إنكار البدع والمعاصي الظاهرة بالأدلة الشرعية، وبالترغيب والترهيب، والأسلوب الحسن، ولا يلزم عند ذلك ذكر حسنات المبتدع، ولكن متى ذكرها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمن وقعت البدعة أو المنكر منه تذكيرا له بأعماله الطيبة، وترغيبا له في التوبة، فذلك حسن، ومن أسباب قبول الدعوة والرجوع إلى التوبة”16.
ومن ذلك قول عبد الله بن أحمد: قال أبي: سيف اختلفوا فيه، ابن سليمان، أو ابن أبي سليمان، ثقة، زكريا بن إسحاق ثقة، شبل ثقة، هؤلاء ما أقربهم، سيف، وزكريا، وشبل، وإبراهيم بن نافع ثقة، أصحاب ابن أبي نجيح قدرية عامتهم، ولكن ليسوا هم أصحاب كلام، إلا أن يكون شبل، لا أدري”17.
فانظر كيف حذر منهم بوصفهم بالقدرية مع ذكر حسنة من حسناتهم وهي أنهم ليسوا من أصحاب الكلام للحاجة الشرعية، حيث قد يتوهم في خصوصهم كونهم قدرية أن لازمه خوضهم في الكلام فتأمل.
ومن صور ذكر الحسنة عند التحذير دفع ما نسب إلى المحذَّر منه ظلما من الأقوال أو الأعمال لقول شيخ الإسلام رحمه الله: “يجوز بل يستحب، وقد يجب أن يذب عن المظلوم وأن ينصر، فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان”18.
فعليك -يا رعاك الله- بتصحيح الطريق، بالحجة لا بالتنميق والتزويق، حتى لا تحيد عن التدقيق والتحقيق.
وصحح قواعدك بالطرح المستبين، وفق أدلة الشرع المبين وما كان عليه من سلف من الصالحين، لتتعرف على السبيل المتين، وتتوجه إليه بصدق ويقين، والموفق الله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في المظالم المشتركة 26.
2. مجموع الفتاوي 10/366.
3. الترجمة في الأصل وعند الإطلاق تستوعب عموما ما في حياة المترجَم له من حسنات وسيئات، إلا أنه في حالات قد يُقتصر فيها على بعض ذلك مما لا يعين على الموازنة لعدم وقوف المترجِم على ما يقضي بذلك، كما أن الترجمة أحيانا قد يقصد بها التحذير فلا تذكر فيها إلا المخالفات على ما سنبينه، وهذا واضح للمتأمل في كتب التراجم فتنبه.
يقول الإمام الألباني رحمه الله: “..النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقد في ترجمــة تاريخية فهنا لا بد من ذكر ما يحسن وما يقبح فيما يتعلق بالمترجَم؛ من خيره وشره، أما إذا كان المقصود من ترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة عامتهم الذين لا علم لهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال ومثالب الرجال، بل قد يكون له سمعة حسنة ومنزلة مقبولة عند العامة لكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو خلق سيء، هؤلاء العامة لا يعرفون شيئا من ذلك عن هذا الرجل حينذاك لا تأتي هذه البدعة التي سميت اليوم الموازنة، ذلك لأن المقصود من ذاك النصيحة وليس الترجمة الوافية الكاملة..” شريط: بدعة الموازنة.
4. يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: “..فمن أراد أن يتكلم عن شخص على وجه التقويم فالواجب عليه أن يذكر محاسنه ومساوئه -هذا إذا اقتضت المصلحة ذلك- وإلا فالكف عن مساوئ المسلمين هو الخير” لقاء الباب المفتوح ص:67.
5. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/202، وانظر قول أبي يعلى القزويني رحمه الله في الإرشاد في معرفة علماء الحديث ص: 408.
6. كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في لقاء الباب المفتوح (ش:121).
7. قال الغزالي رحمه الله: “يجوز كشف بدعة المبتدع وفسقه حتى لا ينخدع الناس به، ففيه توعية ونصيحة للمسلمين للبعد عن شره” الإحياء 3/132.
8. مع الحذر من مجاوزة الحد عند ذكر ذلك حتى لا يُتفكَّه بالأعراض فإن القدح فيها أصله الحرمة، والكلام فيها بالسلب من باب الضرورة، وهذه الأخيرة تقدر بقدرها فتنبه.
قال الإمام القرافي رحمه الله: “سألت جماعة من المحدثين والعلماء الراسخين في العلم عمن يروي قوله عليه الصلاة والسلام: (لا غيبة في فاسق) فقالوا لي: لم يصح، ولا يجوز التفكه بعرض الفاسق” الفروق 8/263.
9. كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، انظر المستصفى للغزالي 1/274، والإبهاج للسبكي 3/188.
10. رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وقال الخطابي رحمه الله: “جمع هذا الحديث علما وأدبا” الفتح 10/454.
11. شرح مسلم 8/4693.
12. أما الحكم بمشروعية ذكرها في هذا المقام أصالة فمخالف لمذهب السلف، بل ذلك بدعة عصرية من قالات بعض الخلف.
13. كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في لقاء الباب المفتوح (ش:121).
14. وإذا كان لا يحسن ذكر الحسنات عند التحذير في الأصل سدا لذريعة الاغترار بالمحذَّر منه، فإن ما نهي عنه سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة فتأمل.
15. انظر مقدمة كتاب منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف 8.
16. مجموع الفتاوي والمقالات للشيخ ابن باز رحمه الله 9/352.
17. العلل ومعرفة الرجال 3/260.
18. الفتاوي 4/186.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *