التعاون مع المخالف.. “..أهل البدع والفجور.. إذا طلبوا أمرا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى أُجيبوا إليه وأُعطوه وأُعينوا عليه..” رشيد مومن الإدريسي

كثير من الناس لا يعرفون في حالتي التعاون والاختلاف إلا التوافق الشامل والاتحاد الكامل، أو المباعدة والبراء والخصومة وعدم الالتقاء، وهذا من صور الجهل وضعف النظر، وغياب المعرفة بقواعد الشريعة وما دل عليه الخبر.

ولذا أخطأ قوم فجعلوا مسألة التعاون مع المخالف ممنوعة في كل حال؛ لظنهم أن تحذير السلف رضوان الله عليهم من مخالطة المبتدعة هو لذاته، والصواب أن هذا الباب يرجع إلى سد الذرائع ومراعاة المصالح والمفاسد، واختلاف الأسباب والدوافع.
وعليه نقول: من المقرر في الشريعة الغراء ومن المعلوم عند العلماء أن من صدق عليه وصف الإسلام لا بد أن ينال نصيبا من المحبة والولاء بحسبه، ومن لوازم ذلك التعاون معه في الحق وإقامته، ودرء الباطل وإزالته فإنه “إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر؛ وفجور وطاعة ومعصية؛ وسنة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة؛ كاللص تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة1، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم”2.
فالتعاون مع المخالف في وجوه البر أمر مطلوب شرعا مصداقا لعموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، أما من يرى عدم مشروعيته بالكلية لوجود المخالفة، فقد أبعد النجعة وصار في ضيعة، ذلك لأن الاختلاف واقع بين البشر ولابد وإن سعى أهل العلم إلى تضييقه بضابطه فإنه لا يحد، “فتأملوا رحمكم الله كيف صار الاتفاق محالا في العادة”3، ومن تم فدعوى تقرير التحالف في الحق مع الموافق فقط دون المخالف تعطيل لمبدأ التعاون الذي دلت عليه الآية فتأمل فإن “المخالطة والمنافعة وبذل المعروف وكظم الغيظ وحسن الخلق وإكرام الضيف ونحو ذلك فيستحب4 بذله لجميع الخلق”5.
ومن الأدلة الخاصة في ذلك دعوة النبي عليه الصلاة والسلام المنافقين إلى القتال مع المؤمنين، حيث خلَّدها القرآن فقال تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ}.
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره للآية: “يعني تعالى ذكره بذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول المنافق وأصحابه، الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحُد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا”6.
كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم؛ وأني أنكته”7.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله بشأن هذا الحلف: “ولهذا كان لحلف الفضول الواقع من أولئك الرؤساء الفحول ممدحا على تعاقب العصور، وتوارد الدهور، مع أنه واقع من قوم لم يرح أحدهم رائحة الإسلام، على قوم من الجاهلية الطغام، ولكنه لما كان مشتملا على مكارم الأخلاق التي أحدها الانتصاف للمظلوم من الظالم8، كان بذلك المكان المكين عند المسلمين والكافرين.. وليس من شرط حسن هذا القانون أن يكون القيام من أولئك بجميع الأمور الشرعية، بل الفرد كاف في الحسن إذا خلصت هذه المصلحة عن أن تشاب بمفسدة تساويها أو ترجح عليها”9.
فالناظر إذن فيما سبق ذكره لا يشك في مشروعية التعاون مع المخالف في الخير بشرط: تحقق10 المصلحة الراجحة؛ وعدم تضرر دعوة الحق لا في الحال ولا في المآل11، كل ذلك تحت إعمال المؤهل12 لفقه المصالح والمفاسد؛ كما وضح ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله عند قوله عليه الصلاة السلام لقريش في صلح الحديبية كما عند البخاري في الصحيح: “والذي نفسي بيده لا يسألوني عن خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها”؛ حيث قال: “ومنها (أي: من فوائد يوم الحديبية) أن المشركين13 وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة، إذا طلبوا أمرًا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى؛ أجيبوا إليه وأُعْطُوُه وأُعِيُنوا عليه، وإن مُنِعوا غيره فيعاوَنون على ما فيه تعظيم حرمات الله؛ لا على كفرهم وبغيهم، ويُمنعون ما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى، مُرْضٍ له؛ أجيب إلى ذلك، كائنًا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع، أو أصعبها، وأشقها على النفوس”14.
وكما مر معنا فإن باب تحذير السلف من مخالطة أهل البدع هو من باب سد الذرائع فإذا تحققت المصلحة الراجحة في التعاون مع المخالف في الحق شُرع الأمر لأن “ما كان منهيا عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة في نفسه يشرع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولا تُفَوَّت المصلحة الراجحة لغير مفسدة راجحة”15.
وها هو شيخ الإسلام لم يتردَّد في الشفاعة في دفع بعض الظلم عن بعض أهل البدع حيث شفع عند القاضي حسام الدين الحنفي عندما أراد حلق لحية الأذرعي، وهو خصم لشيخ الإسلام ومع ذلك عاونه على الأمر ما دام من الحق فقال رحمه الله: “فقمت إليه، ولم أزل به حتى كف عن ذلك -أي: عن حلق اللحية، وركوب الأذرعي الحمار، ليطاف به- قال: وجَرت أمور، لم أزل فيها محسنًا إليهم،..”16.
وقال رحمه الله عند حديثه عن ابن مخلوف وهو أحد أعدائه17 كذلك: “..وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين”18.
ومن العجيب في هذا الباب نهي البعض عن معاونة المخالف مطلقا ولو في الحق لفعل أهل البدع له مع أن “الذي عليه أئمة الإسلام: أن ما كان مشروعًا لم يُترك لمجرد فعل أهل البدع، لا للرافضة ولا غيرهم، وأصولُ الأئمة توافق هذا..”19.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “إذا لم يحصل النور الصافي؛ بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف؛ وإلا بقي الإنسان في الظلمة؛ فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه20، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية”21.
وفي الختام هذه خلاصة ما أردت إيضاحه حول هذه المسألة موجزا الكلام، وإلا فبسط الأدلة الشرعية والقواعد المرعية عليها إن شاء الله تعالى في غير هذا المقام، مع ذكر فتاوي كبار أهل العلم المعاصرين الكرام، كل ذلك بنظرة علمية تنير الطريق للأنام، وتحملهم على الوسطية والاعتدال والسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. فتذكر.
2. قاله شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي 28/208-209
3. كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات 3/764
4. وقد يجب على حسب الحال والأقوال والفعال.
5. قاله الإمام ابن الوزير رحمه الله في إيثار الحق على الخلق 371
6. تفسير الطبري رحمه الله 7/378
7. انظر الصحيحة رقم: 1900
8. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم شهدت حلفا في الجاهلية ما أحب أن لي به حمر النعم لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت فهذا والله أعلم هو حلف المطيبين حيث تحالفت قريش على نصر المظلوم وكف الظالم ونحوه فهذا إذا وقع في الإسلام كان تأكيدا لموجب الإسلام وتقوية له” حاشية ابن القيم على مختصر أبي داود للمنذري 1/349
9. كما نقله عنه العلامة صديق حسن خان رحمه الله في (إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة) ص:283.
قال صديق حسن خان رحمه الله: “وفي كتاب (الدرر الفاخرة المشتملة على سعادة الدنيا والآخرة) للشيخ العلامة العالم الرباني القاضي علي بن محمد الشوكاني فصول تتعلق بآداب الوزارة أتى فيه بما يقضي حق المقام وقد وقفت عليه وانتفعت به في كتابي (إكليل الكرامة..) وبالله التوفيق” أبجد العلوم 2/43
10. لا بد أن تكون المصلحة كذلك غير متوهمة فإن “الموهوم لا يدفع المعلوم، و..المجهول لا يعارض المحقق ” القواعد الحسان للسعدي رحمه الله 127
11. فتأمل وبالعلم تجمل.
12. هذا شرط أساس فلا تعجل.
13. إذا كانت المعاونة في الحق مع المشركين مشروعة بشرطها، فمع المسلمين المخالفين بضابطها من باب أولى فكن من اليقظين، ولا يعني هذا عدم الرد على مخالفاتهم في محله وبقيوده نصرة لدين رب العالمين، فتنبه ولا تكن من الغافلين.
14. زاد المعاد 3/303
15. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 23/214
16. الفتاوي 3/270
17. حتى قال فيه شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي 3/235: “ابن مخلوف رجل كذاب فاجر، قليل العلم والدين”.
18. الفتاوي 3/271، وقال كذلك في 3/277: “ومما ينبغي أن يعرَّف به الشيخ: أني أخاف أن القضية تخرج عن أمره بالكلية، ويكون فيها ما فيه ضرر عليه، وعلى ابن مخلوف ونحوهما… وأنا مساعد لهما على كل بر وتقوى”.
19. منهاج السنة لابن تيمية رحمه الله 4/149، وقال شارح الطحاوية رحمه الله 2/413: “المعتبر رجحان الدليل، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه”.
20. قال ابن تيمية رحمه الله: “..فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس..” الفتاوي 28/264
21. الفتاوي 10/364

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *