ليس من الحق في شيء عند أي مخالفة وقعت، إصدار الكلمات والأحكام كيفما اتفقت؛ ذلك أن “الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع”(1) فمَنْ جعل أدنى اختلاف مُسوِّغاً للتشهير والتَّعييب، والتَّحقير والتَّلْقيب، فقد حمَّل الأمر مالا يتحمَّلهُ، ولقي الله بذنْبٍ يعجز عنه كاهلُه.
يقول ابن رجبٍ رحمه الله: “وأمَّا مُرَاد الرَّاد بذلك: إظهارُ عيب منْ ردَّ عليه، وتنقُّصُه، وتبيين جهلِه وقصوره في العلم ونحو ذلك، كان محرَّماً؛ سواءٌ كان ردُّه لذلك في وجْه من ردَّ عليه أو في غيبته، وسواءٌ كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخلٌ فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه، وتوعَّد عليه في الهمز واللَّمْز”(2).
فالله الله في الكلام بالعلم والعدل فإن “الله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم”(3)، لكن الكثير من الناس قد همَّشوا مثل هذه الضوابط، ورموا بها عرْض الحائِط؛ فاتَّخذوا طُرُقاً عجيبةً في إصدار الأحكام على منْ خالفهم، غيْر أنَّ وجه الصَّواب فيها لم يُحالِفْهم؛ وما حقيقة حالهم إلا السعي سعْياً حثِيثاً في إلْصاق كُلِّ تُهمةٍ وباطل، على كلُّ عاقلٍ وفاضل.
كناطح صخرة يوما ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وليعلم أن إضاعة واجب العلم والعدل لأمرٌ خطرٌ، يُوجب إعادة النَّظر في الأصول التي نحتكم إليها، والموازين التي نسير عليها، بل لابد -قبل ذلك أصالة- من ترْبيةٍ للنفس تربيةً تُعينها على ضبْط المسائل والحقائق، وحسن التعامل مع الوقائع والدقائق.
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: “وكلٌّ من القلب والبدن محتاجٌ إلى أنْ يتربَّى فينمو ويزيد؛ حتى يكمل ويصلح، فكما أن البدن محتاجٌ إلى أن يزكو بالأغذية المصْلحة له، والحمية عمَّا يضرُّه؛ فلا ينمو إلاَّ بإعطائِه ما ينْفعه، ومنع ما يضرُّه، فكذلك القلب: لا يزكو، ولا ينمو، ولا يتمُّ صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن؛ وإن وصل إلى شيءٍ منه من غيره، فهو شيءٌ يسيرٌ لا يحْصل له به تمام المقصود”(4).
فحري في خصوص ما نتكلم فيه أن تجمع كِنانة الأقلام والمحابر، وأن يفتش عن صيد في بُطون الكتب والدَّفاتر، لإيجاد الفوائد الفرائد، وضبط الضوابط والقواعد، لأنه لا يحرم على صاحب المنهج السَّويِّ أنْ يذود عن حوضه، ويحلُّ لمن خالفه أن يتطاول على الزَّهر في روضه (!)، والتوفيق من الرب المستوي على عرشه.
فمما هو معلوم عند النجباء أنَّه لا مناص عن الطَّعن في أحدٍ من مُخالفيه؛ إذْ لم يسْلم من ذلك كاملٌ ولا مُقصِّر، ولا مُتقدِّمٌ ولا مُتأخِّر، ولكن هي حال الشَّريف: ما بين مُعدِّلٍ له، وآخر مجرح، والعبْرة عند ذلك بحقيقة الحال، لا بما يسمع من قالاتٍ وأقوال.
فلن يضير ذلك المُتكلَّم فيه بجهل وظلم إذا صحت أصوله؛ وسلمت قواعده، فإن “طوارق الإنسان: من دلائل فضله، ومحنَه من شواهد نُبْله؛ وذلك لأحدى علتين، إمَّا لأن الكمال مُعْوِز، والنقْصَ لازم؛ فإذا تواتر الفضل عليه، صار النَّقصُ فيما سواه. وقد قيل: (من زاد في عقله، نقص من رزقه).. وإمَّا لأنَّ ذا الفضْل محسود، وبالأذى مقصود، فلا يسْلم في برِّه من مُعادٍ، واشْتطاط مُناوٍ”(5)، والتسلية عند حلول ذلك بقول أحد الأكياس: “من الذي يسلم من ألسنة الناس”(6).
قال أبو العتاهية:
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما *** وللناس قال بالظنون وقيل
قال مُطرِّف بن عبد الله رحمه الله: “قال لي مالك رحمه الله: ما يقول فيَّ الناسُ؟ قلت: أمَّا الصديق فيُثني، وأما العدوُّ فيقع. فقال: ما زال الناس كذلك، ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلِّها”(7).
فها هو ابنُ جريرٍ الطَّبريُّ: الَّذي كان يُقال عنه: “من أراد أن يسْمع القرآن كما أُنْزل، فليسمع تفْسير ابن جرير”، فإذا به يُدْفن بليلٍ خوفاً من العامَّة؛ لأنه كان يُتَّهم بالتَّشيُّع.
وها هو الفخر الرازي: الذي يقول عنه ابن خلكان: “فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلوم الأوائِل، وتصانيفُه مُفيدة في فنونٍ عديدة؛ منها تفسير القرآن الذي جمع فيه كُلَّ غريب وغريبة”، يقولُ عنه الإمام الذهبي: “له تشكيكاتٌ على مسائِل من دعائِم الدين تورث حيرة. نسأل الله أن يُثبِّت قلوبنا”.
وها هو ابن تيميَّة: الذي هو عند جماعة المسلمين: شيخُ الإسلام، وإمام المُسلمين في عصْره، قامع الكفر والرِّدة، وهازم التَّتار والصَّليبيَّة، وكاشف فضائِح الباطنية، والمُدافع عن الكتاب والسُّنَّة النبويَّة، هو عند النَّبهانيِّ “أنَّ الله لم يُبارك في كتبه فلم ينْتفعْ بها أحدٌ من المسلمين، وأنَّ العلماء اتَّفقوا على حبْسه الحبْسَ الطَّويل “، فلا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله!
فما هو الضابط للخروج من حيرتك أيها المتحير؟، وما هو السبيل إلى الصواب في مثل ذلك أيها المتستر؟
الجواب كشف عنه الإمام الذهبي رحمه الله حيث قال: “اعلم أن أهل القبلة كلهم، مؤمنهم وفاسقهم، وسنيهم ومبتدعهم سوى الصحابة لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج، ولم يجمعوا على مسلم بأنه شقي هالك، فهذا الصديق فرد الأمة، قد علمت تفرقهم فيه، وكذلك عمر، وكذلك عثمان، وكذلك علي، وكذلك ابن الزبير، وكذلك الحجاج، وكذلك المأمون، وكذلك بشر المريسي، وكذلك أحمد بن حنبل، والشافعي، والبخاري، والنسائي، وهلم جرا من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له، ويذبون عنه، ويدينون بقوله بهوى وجهل، وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل، المتصفين بالورع والعلم..”(8).
فالواجب إذن على المنصف الرُّجوع إلى ما علمه من حق، واعْتقاد ذلك بيقين وصدق. ولا يحملنَّه ما كان يميل إليه من الإصرار والبقاء عليه، “إذْ الْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ، وَإِمَّا اسْتِدْلالٌ مُحَقَّقٌ”(9)، وما سوى ذلك فهذيان مزوق.
يقول ابن قيم الجوزية يرحمه الله: “إذا اجتهدتَّ في حكومة، ثم دفعت لك مرة أُخْرى، فلا يمنعُك الاجتهادُ الأول من إعادته؛ فإن الاجتهاد قد يتغيَّر، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعاً من العمل بالثاني إذا ظهر أنَّه الحق؛ فإن الحقَّ أولى بالإيثار، لأنه قديم سابق على الباطل؛ فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني، والثاني هو الحق، فهو أسبق من الاجتهاد الأول؛ لأنه قديم سابق على ما سواه، ولا يُبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلافه، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول”(10).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. منهاج السنة 4/337.
2. الفرق بين النصيحة والتعيير 25.
3. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 16/96.
4. إغاثة اللهفان 1/46.
5. أدب الدنيا والدين للماوردي رحمه الله 255.
6. قالها الإمام الذهبي رحمه الله في السير 8/448.
7. انظر حلية الأولياء 6/342.
8. سير أعلام النبلاء 14/342.
9. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 13/344.
10. إعلام الموقعين 1/110.