خطوات الاستدلال بالدليل عند أهل السنة والحديث “مراعاة ضوابط الأمر والنهي1” رشيد مومن الإدريسي

عرف علماء الأصول الأمر بقولهم: “استدعاء الفعل على وجه العلو والاستعــلاء”. 

استدعــاء: يعني الدعوة إلى فعل المأمــور (الإيجاب أو الاستحباب) بالقول أو الكتابــة أو الإشارة.
على وجه العلــو: وهي صفة الآمر أي: أن الآمر أعلى من المأمور، لأن الآمر إذا كان مساويا للمأمور سمي التماسا، وإذا كان الآمر أدنى من المأمور سمي ذلك سؤالا و طلبــــا و دعاء.
قال الناظــم:
أمر مع استعلا و عكسه دعــا وفي التساوي فالتماس وقعا
أما الاستعــلاء فهو: صفة للآمر نفسه والمعنى أن يكون الآمر في أمره مؤكدا جازما.
وليعلم أن للأمر صيغ أصلية تدل على طلب الفعل إذا تجردت عن القرائن الصارفة عنه وهي أربع:
– لفظ (إفعل): يعني فعل الأمر كقوله تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ…..).
– الفعل المضارع المقترن بلام الأمر، مثل قوله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ).
– إسم فعل الأمر: كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ).
– المصدر النائب عن فعل الأمر كقوله تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ).
و أما صيغ الأمر التي ليست بأصلية فهي الكلمات الدالة على الطلب من حيث أصل المادة كلفظ: أمر، وكتب، وفرض، ووجب، وغيرها مما يترتب على تركه العقاب أو الذم أو إحباط العمــل.
ومن الضوابط المقررة في الباب أن صيغة الأمر المطلقة المتجردة عن القرائن تفيد الإيجاب، هذا هو مذهب السلف وجمهور الأمة، والتفريق المقرر تنظيرا عن بعض العلماء بين العبادات والآداب في الباب مرجعه إلى الضابط المذكور على التحقيق.
وإذا وردت هذه الصيغة خالية مما يدل على فور أو تراخ اقتضت فعل المأمور به فورا في أول زمن الإمكـان وهو اختيار ابن قدامة وابن القيم وابن النجار الفتوحي والشنقيطي عليهم رحمة الله.
واختلف العلماء في الأمر المجرد غير المقيد بالمرة ولا بالتكرار (و لا دلت القرائن على أحدهما) ولا بصفة ولا بشرط هل يقتضي التكرار أو المرة؟
فذهب الأكثرون إلى عدم إفادته التكرار لأنه لمطلق إيجاد الماهية والمرة الواحدة تكفي فيه، فمثلا لو قال الزوج لوكيله: “طلق زوجتي”، لم يملك إلا تطليقة واحدة. ولو أمر السيد عبده بدخول الدار (مثلا) قام بواجبه بفعل ذلك مرة واحدة، و لم يحسن لومه ولا توبيخه.
وإذا كان الأمر المطلق يتوقف وجوده على شيء آخر، فإن الأمر يشمله أيضا كالطهارة فإن الأمر بالصلاة يشملها، وهذا معنى قول علماء الأصــول “الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به”.
وليعلم كذلك أن صيغة الأمر بعد النهي تفيد ما كانت تفيده قبل النهي.
وهذا المذهب هو المعروف عن السلف والأئمة، وقد دل على ذلك الاستقراء وكثير من الأدلة.
قال الله سبحانه وتعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ…).
فقتل الصيد كان مباحا ثم منع للإحرام ثم أمر به عند الإحلال (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ) فيرجع الحكم إلى ما كان عليه قبل التحريم، وهو الإبـــاحة.
فالصحيح إذن الذي يثبت على السبر في الأمر بعد الحظر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبا رده واجبا، وإن كان مستحبا فمستحب أو مباحا فمباح…
أما مبحث النهي فقد قال العلماء: إن كل مسألة من مسائل الأمر ثَمَّ مسألة على وزانها من مسائل النهــي، لأن النهي نقيض الأمر مقابل له.
قال ابن قدامة -رحمه الله-: “اعلم أن كل ما ذكرناه من الأوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي على العكس، فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير”.
وقد عرف النهي اصطلاحــا بقولهم: “استدعاء الترك على وجه العلو والاستعلاء” اهـ.
أما صيغ النهي فالأصلية: كل مضارع مجزوم بلا ولا يدخل في ذلك: كف، أو خل، أو ذر، أو دع كما في قوله تعالى: (وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) (وَدَعْ أَذَاهُمْ) (فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ) لأنها وإن كانت تفيد طلب الكف إلا أنها بصيغة الأمــر.
وأما الصيغ التي ليست بأصلية فما جاء التصريح فيه بلفظ التحريم، والنهي والحظر والوعيد على الفعل، وذم الفاعل وإيجاب الكفارة بالفعل، وكلمة ما كان لهم كذا ولم يكن لهم، وكذا ترتيب الحد على الفعل، وكلمة “لا يحل” ووصف الفعل بأنه فساد أو أنه من تزيين الشيطــان وعمله وأنه تعالى لا يرضاه لعباده، ولا يزكي فاعله، ولا يكلمه ولا ينظر إليه ونحو ذلك.
وليعلم أن صيغة النهي الواردة في خطاب الشارع للمكلفين تدل على حقيقة واحدة وهي “التحريم”، ولا يصار إلى سواها إلا بقرينة، وهذا هو مذهب الجمهور.
وهذه الصيغة تقتضي الفور والتكرار، أي -الاستمــرار- عند جمهور أهل الأصول.
ومن مسائل الأصول العظيمة التي اختلفت فيها أنظار العلماء ما يسمى عندهم بـ: “النهي يقتض الفساد” والقول الصحيح الذي تتضح به هذه المقولة، وتتبين به هذه المسألة أن النهي يقتضي الفساد، ويدل على فساد المنهي عنه إذا كان النهي متعلقا أو راجعا لعين المنهي عنه أو لركنه أو لشرطه، أو لوصفه الملازم.
أولا: لعينــه: أي أن النهي لم يقيد بصفة للشيء وإنما هو نهي عن الشيء نفسه، كما في قوله تعالى: (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) فهذا نهي عن الشرك أي نهي عن عين الشرك، فيدل على فساده.
ثانيا: لشرطه أي: نهي عن الشيء لاعتبار ركنه كالنهي عن الصلاة بلا ركن من أركانها (مثلا) فالنهي إذن راجع إلى تخلف ركن من الأركان فيدل على الفساد.
ثالثا: لشرطه أي: نهي عن الشيء باعتبار شرطه، مثلا قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يقبل الله صلاة أحدكم إن أحدث حتى يتوضأ” فهنا نهي عن الصلاة إلا بالطهارة، فالطهارة شرط في صحة الصلاة، فصار النهي عن الصلاة لعدم توفر الشرط فدل على فساد المنهي عنه.
رابعــا: لوصفه الملازم: أي الوصف الملازم الذي يلازم النهي، كقوله تعالى: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى) فنهى هنا عن الصلاة، فهل هذا النهي يدل على فساد الصلاة مطلقا؟
الجواب: لا لأنه لم ينهى عن الصلاة بعينها وإنما نهى عن الصلاة بهذا الوصف الذي لازمها حين النهي، فصارت الصلاة بذلك فاسدة.
قاعدة تخص الأمر و النهي:
وهي: “الأمر بالشيء نهي عن أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده”
فقول أهل العلم: “الأمر بالشيء نهي عن أضداده” مثاله قوله تعالى: (وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ) فهذا أمر بالقيام في الصلاة، فدل على النهي عن أضداد ذلك كالقعود والجلوس والاستلقاء وغير ذلك، ولا يقال: “الأمر بالشيء نهي عن ضده” لأن هذه العبارة ظاهرا لا تخرج إلا ضدا واحدا مع أن هناك أضدادا كثيرة في هذه المسألة، فتنبــه.
وكذلك قولهم: “النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده” فهذا أولى من قولهم “النهي عن الشيء أمر بضده” مثاله قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى).
فهذا نهي عن الزنا أي عن غشيان الزنا، وعدم غشيانها له أضداد، كالزواج وملك اليمين والصيام والاستعفاف والصبر.. إلى غير ذلك.
فهل النهي عن الزنا أمر بجميع تلك الأضداد؟
الجواب: ليس كذلك ولذلك الصحيح أن يقال: النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده أي: لك الخيار في اختيار أحد هذه الأضداد، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ

1. انظر شرح الكوكب المنير، والإحكام للآمدي، والإبهاج للسبكي، والمذكرة، ومختصر ابن اللحام، وروضة الناظر، والفقيه والمتفقه، وإرشاد الفحول، ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، وشرح الورقات لصالح آل الشيخ في آخرين.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *