إخراج الناس من السُّنّة شديد.. “..كل من أعرض عن الطريقة السلفية النبوية الشرعية الإلهية فإنه لا بد أن يضل ويتناقض..” رشيد مومن الإدريسي

من المقرر عند أهل التحقيق والنظر الدقيق أن “مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي..وأحمد1، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعا”2.

فالواجب إذن السير وفق منهج السلف الصالح3 فـ”ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا”4، فـ”مذهب السلف هو المذهب المنصور والحق الثابت المأثور، وأهله هم الفرقة الناجية، والطائفة المرحومة التي بكل خير فائزة، ولكل مكرمة راجية”5.
مع التنبيه أن السبق الزمني وحده غير كاف لتحديد مفهوم منهج السلف الصالح حتى ينضاف إلى ذلك موافقة الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، وأعيان التابعين لهم بإحسان عليهم من الله الرحمة، ومن سار على دربهم من أئمة الدين ممن تلقى الناس كلامه دون من رمي ببدعة أو اشتهر بلقب غير مرضي، ومن تم ” فكل من أعرض عن الطريقة السلفية النبوية الشرعية الإلهية فإنه لابد أن يضل ويتناقض ويبقى في الجهل المركب أو البسيط”6.
وإذا كانت النصوص عن النبي عليه الصلاة والسلام قد تواترت “بأن خير قرون هذه الأمة القرن الذي بعث فيهم صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين بلونهم7، وأعظم الفضائل فضيلة العلم والإيمان، فهم أعلم الأمة باتفاق علماء الأمة8، ولم يدعو الطرق المبتدعة المذمومة عجزا عنها، بل كانوا كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (على كشف الأمور أقوى، وبالخير لو كان في تلك الأمور أحرى)”9، إلا أن “الكثير ممن يذكر مذهب السلف ويحكيه لا يكون له خبرة بشيء من هذا الباب”10، خاصة من بعض أهل زماننا الذين ينتصرون لمذهب السلف دون إحكام للضوابط والقواعد، وإنما تمشيا مع الأعراف والعوائد، وإتباعا للقول الشائع السائد، بل صرنا نرى بلسان الحال وكذا بلسان المقال من اعتبر نفسه وصيا على هذا المنهج المبارك وهو غافل أو متغافل حتى حصل بسبب ذلك محن وإحن بناء على التعصب لزلة متبوع؛ فاتبعت المسالك الردية وحظيت عند المقلدة بالذيوع، فإن “العالم قد يتكلم بالكلمة التي يزل فيها فيُفَرِّع عليها أتباعه فروعا كثيرة”11.
فقد أخرج أناس غيرهم من دائرة السنة ومنهج سلف الأمة دون علم أكيد؛ ولا تأصيل سديد؛ مع أن “إخراج الناس من السنة شديد” كما قال الإمام أحمد رحمه الله 12 إمام السنة والورع العتيد.
فاعلم -يا رعاك الله- أن المرء لا يخرج عن دائرة السنة السنية، ولا يعد مخالفا للطائفة المنصورة المرضية إلا بأحد أمرين: “الأول: بأمور كلية في الدين وقاعدة من قواعده الشرعية13 التي ينطوي تحتها عدد من الجزئيات.
الثاني: تكاثر الجزئيات المخترعة وإنشاؤها”14.
وقد قرر ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله: “..هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية، لأن الكليات تضم من الجزئيات غير قليل، وشأنها في الغالب أن لا تختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب..
ويجري مجرى القاعدة الكلية: كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا كثـَّر من إنشاء الفروع المخترعة، عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضا”15.
ومرجع ذلك أساسا إلى الأمر الأول أي: المخالفة في أصل من أصول أهل السنة أو كلي من كلياتها، أما الأمر الثاني فيعود إليه إذ مخالفة أهل السنة في كثرة الجزئيات المتشعبة ينم عن المخالفة في أصل؛ فتأمل وبالعلم تجمل. ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فالمبتدع هو من خالف أصلا من أصول أهل السنة رحمهم الله”16، وليس المراد بالمبتدع في كلامه من أحدث أي بدعة وإنما من ابتدع أصلا وكليا أو سار عليه خلاف ما عليه أهل الحق المستبين فلا تكن من الغافلين، وقد كشف عن هذا هو نفسه حيث قال رحمه الله: “والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة فإن عبد الله بن المبارك، ويوسف ابن أسباط، وغيرهما قالوا: أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع17: الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة. قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد عليه الصلاة والسلام”18.
وعليه فلا يلزم من كون أهل الحديث أهل الحق19 عدم وجود الخطأ والزلة بل والبدعة التي لا تخرج عن دائرة السنة في أفرادهم20 فتنبه؛ حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فالمنتسبون إلى أهل الحديث والسنة والجماعة يحصل من بعضهم.. تفريط في معرفة النصوص أو فهم معناها أو القيام بما تستحقه من الحجة ودفع معارضها، فهذا عجز وتفريط في الحق، وقد يحصل منهم دخول في باطل: إما في بدعة ابتدعها أهل البدع وافقوهم عليها واحتاجوا إلى إثبات لوازمها، وإما في بدعة ابتدعوها هم لظنهم أنها من تمام السنة..”21.
إذن فمناط الإخراج من دائرة السنة المخالفة في أصل من أصولهم الأثرية أصالة، مع التنبه في هذا الصدد إلى أن الطريق القويم لتحقيق مذهب السنة والدين وضبط المعيار لكون المرء منه أو خارجا عنه راجع عند المحققين إلى أمرين:
أولهما: النقل المتواتر المستفيض عن أعيناهم كالتصريح بأن الإيمان قول وعمل ونحو ذلك مما هو مبين.
والثاني: تنصيص العلماء المحققين الكبار أن على هذه المسألة إجماع محقق للسلف الصالحين.
فلا تغفل عن هذا رحمك الله فإنه مهم ذلك أن البعض قديما وإلى عصرنا الحاضر قد استعملوا مسلكا لتقرير ذلك يخالف نهج العارفين بمنهج السلف الصالحين وهو مسلك الفهم وصورته: أن من فهم فهما من نصوص الوحيين أو من بعض الآثار عن الصحابة والتابعين رآه حقا وصوابا ثم يقول: هذا مذهب السلف لأن السلف لا يقولون إلا حقا وهذا حق!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومن المعلوم: أن مذهب السلف إن كان يعرف بالنقل عنهم فليرجع في ذلك إلى الآثار المنقولة عنهم وإن كان إنما يعرف بالاستدلال المحض بأن يكون كل من رأى قولا عنده هو الصواب؛ قال: (هذا قول السلف لأن السلف لا يقولون إلا الصواب وهذا هو الصواب) فهذا هو الذي يجرئ المبتدعة على أن يزعم كل منهم: أنه على مذهب السلف؛ فقائل هذا القول قد عاب نفسه بنفسه حيث انتحل مذهب السلف بلا نقل عنهم بل بدعواه: أن قوله هو الحق.
وأما أهل الحديث: فإنما يذكرون مذهب السلف بالنقول المتواترة يذكرون من نقل مذهبهم من علماء الإسلام.. فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين:
أحدهما: أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم ومن روى ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة.
والثاني: أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الأربعة..
فصار مذهب السلف منقولا بإجماع الطوائف وبالتواتر؛ لم نثبته بمجرد دعوى الإصابة لنا والخطأ لمخالفنا كما يفعل أهل البدع”اهـ 22.
فاعلم والزم أيها المستن فهذا هو النظر الأكيد، والتصور السديد، فإن كنت صاحب علم عرفت الحقائق، أو ممن رزق البصيرة أدركت الدقائق، إلا أن تكون جاهلا بالقواعد العلمية، أو ذا عصبية وحمية، فتنكر بالهوى التأصيلات الجلية، والضوابط المرعية، أو تنفي23 كل ذلك بلا روية، فوالله إنها فتنة وبلية!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. قد أورد أناس شبهة على مذهب السلف؛ قد تلتبس على البعض وهي أن كثيرا من العلماء ينتسبون في اعتقادهم إلى الإمام أحمد رحمه الله؛ وعليه قالوا: أن مذهب السلف الذي تدعونه هو مذهب الحنابلة فنقول جوابا: صحيح أنه من العلماء من انتسب إلى الإمام أحمد في العقيدة؛ ومنهم على سبيل المثال السلطان محمد بن عبد الله العلوي رحمه الله كما في كتابه: مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان ص:25، لكن لا يعني هذا أن مذهب السلف هو مذهب الحنابلة، وقد كشف عن ذلك شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: “الاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع، وإلا فهو كتاب الله وسنة رسوله، حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف: معرفته والإيمان به، وتبيلغه والذب عنه، كما قال بعض أكابر الشيوخ: الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة، والظهور لأحمد بن حنبل..”. درء التعارض 5/5-6.
2. منهاج السنة النبوية لابن تيمية رحمه الله 2/601.
3. قال الشوكاني رحمه الله: “فهم (أي:أهل الكلام) متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف؛ أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز.. فإن هذا ينادي بأعلى صوت، ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها: الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه: أن الجهل خير منه، وينتهي عند البلوغ إلى غايته، والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به عاطلا عنه، ففي هذا عبرة للمعتبرين وآية بينة للناظرين” التحف في مذاهب السلف 3-4.
4. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 5/28
5. لوامع الأنوار للسفاريني رحمه الله ص:20؛ مختصره، هذا مع أن الكثير من المنتسبين إلى السلفية في عصرنا حصل منهم انحراف عن جادة السلف في بعض الأبواب؛ فمقل ومستكثر، ورحمة الله على الشيخ ابن عثيمين لما قال: “والواجب أن تكون الأمة الإسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح لا التحزب إلى ما يسمى (السلفيون) فهناك طريق السلف؛ وهناك حزب يسمى (السلفيون) والمطلوب إتباع السلف” شرح الأربعين النووية 308-309.
6. درء التعارض لابن تيمية رحمه الله 3/370
7. قال الموساوي رحمه الله:
ثلاثة من القرون سلف **** وخامس بلا خلاف خلف
ورابع القرون فيه اختلفا****هل سلف أو خلف من سلفا
الصوارم والأسنة 8/2.
8. وهذا لا يعني عصمة أفهام أفراد السلف الصالح فتنبه.
9. درء التعارض 7/287
10. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 1/470
11. نفسه 8/422.
12. رواه عنه أبو بكر بن الخلال رحمه الله في السنة بإسناد صحيح 1/373، رقم: 513
13. انظر سرد بعض ذلك في كلام الإمام سهل بن عبد الله التستري رحمه الله كما أخرجه الإمام اللالكائي رحمه الله في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/170-171، وكذا في كلام الإمام أحمد رحمه الله في كتابه أصول السنة 17
14. كما في كتاب حكم الانتماء للشيخ بكر بن عبد الله رحمه الله 99
15. الاعتصام 2/177-178 تحقيق مشهور.
16. الفتاوي 12/485-486.
17. وقيل أن أصول الفرق الضالة ستة: الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية كما في تلبيس إبليس للإمام ابن الجوزي رحمه الله 19، والجمع بين القولين: أن من عدها أربعة كالإمام ابن المبارك رحمه الله أراد من هم في دائرة الإسلام، ومن جعلها ستة قصد من هم في دائرة الإسلام ومن خرج عنها.
18.الفتاوى الكبرى 4/193
19. من الإشكالات في هذا المقام أنه إذا كان الحق لا يخرج عن أهل السنة فلم لم يذكر في أصول الفقه أن إجماعهم حجة؟ والجواب كما قال ابن تيمية رحمه الله: “لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قوله عليه الصلاة والسلام في كلمة واحدة، والحق لا يخرج عنهم قط، وكل ما اجتمعوا عليه فهو مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ..فإن قيل: فإذا كان الحق لا يخرج عن أهل الحديث، فلم لم يذكر في أصول الفقه أن إجماعهم حجة وذكر الخلاف في ذلك، كما تكلم على إجماع أهل المدينة وإجماع العترة؟ قيل: لأن أهل الحديث لا يتفقون إلا على ما جاء عن الله ورسوله وما هو منقول عن الصحابة، فيكون الاستدلال بالكتاب والسنة وبإجماع الصحابة مغنيًا عن دعوى إجماع ينازع في كونه حجة بعض الناس، وهذا بخلاف من يدّعي إجماع المتأخرين من أهل المدينة إجماعًا؛ فإنهم يذكرون ذلك في مسائل لا نص فيها، بل النص على خلافها، وكذلك المدَّعون إجماع العترة يدَّعون ذلك في مسائل لا نصّ معهم فيها، بل النص على خلافها، فاحتاج هؤلاء إلى دعوى ما يدّعونه من الإجماع الذي يزعمون أنه حجة..” منهاج السنة 5/ 166-167.
20. والتنصيص على وقوع ذلك في أفراد أهل السنة حتى العالم منهم مبني على أنه “كل بني آدم خطاء” وتقرير ذلك في حقهم خصوصا ليس من الانتقاص في شيء فتنبه.
21. الصفدية 1/392-393، ولذا قال الشيخ بكر بن عبد الله رحمه الله عقب ما يخرج المرء عن دائرة السنة كما مر قريبا: “أما وقوع الزلة والفلتة فلا يعد مرتكبها مفارقا فافهم” حكم الانتماء 99.
23. قال ابن تيمية رحمه الله: “فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات، لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه” الاقتضاء 70-71.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *