لا فرق عموما على مقتضى القواعد والتأصيل بين القدح في المخالف بشرطه وأصحاب القول العليل، وباب التمييز بين من تقبل روايته ومن لا تقبل لحفظ الحجة والدليل، من جهة كون كل من الأمرين داخل في علم الجرح والتعديل1، إلا أن الأمر يحتاج إلى الحكم بالعدل لا مجرد الظن والأباطيل مصداقا لقول الله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا) دفعا للقال والقيل، “أي: إذا قلتم بقول في خبر أو شهادة، أو جرح أو تعديل، فاعدلوا فيه، وتحروا الصواب، ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو، بل سووا بين الناس، فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به”2.
فيجب التحقق -إذن- من الجرح على وجه الخصوص ولو صدر من الأئمة العارفين به والتحري فيه لمن له حظ من ذلك إذا لاح ما يستوجبه3؛ لأن الأمر شديد كما قال اللكنوي رحمه الله: “يجب عليك أن لا تبادر إلى الحكم بجرح الراوي بوجود حكمه من بعض أهل الجرح والتعديل، بل يلزم عليك أن تنقح الأمر فيه، فإن الأمر ذو خطر وتهويل، ولا يحل لك أن تأخذ بقول كل جارح في أي راو كان، وإن كان ذلك الجارح من الأئمة، أو من مشهوري علماء الأمة4، فكثيرا ما يوجد أمر يكون مانعا من قبول جرحه، وحينئذ يحكم برد جرحه، وله صور كثيرة5 لا تخفى على مهرة كتب الشريعة”6.
وعليه فلا بد من مراعاة قواعد الاعتماد على الجرح عند أهل الشأن والمعرفة فيه7 ومتى يؤخذ به وما شرطه وما الحكم إذا عارضه التعديل؛ وغير ذلك من الضوابط في هذا المجال الذي يحتاج إلى دقة النظر وجودة التصور وحسن الفهم؛ حتى نخلص عموما إلى أحكام صحيحة بعيدا عن الهوى والوهم.
وكمدخل عام نقول: “التحقيق أن كلا من التعديل والجرح الذي لم يبين سببه يحتمل وقوع الخلل فيه، والذي ينبغي أن يؤخذ به منهما هو ما كان احتمال الخلل فيه أبعد من احتماله في الآخر، وهذا يختلف ويتفاوت باختلاف الوقائع”8.
وأما التفصيل في المقام فالمعتمد فيه أن “التعديل مقبول من غير ذكر السبب لأن تعداده يطول، فقبل إطلاقه، بخلاف الجرح، فإنه لا يقبل إلا مفسرا9، لاختلاف الناس فيه في الأسباب المفسقة، فقد يعتقد ذلك الجارح شيئا مفسقا فيضعفه، ولا يكون كذلك في نفس الأمر أو عند غيره10، فلهذا اشترط بيان السبب في الجرح”11.
فإذا تعارض جرح مبهم، وتعديل : فالمعول عليه -من خلال ما قرر ولا بد- تفسير هذا الجرح المبهم، ومن تم فـ”الصحيح أن الجرح مقدم12 مطلقا إذا كان مفسرا”13، لأن مع الجارح زيادة علم.
لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها بخلاف من ظن ذلك وخفيت عليه في الأمر الأنظار الصحيحة، وصدق من قال: “وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم، وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة”14.
قال العلامة ابن الوزير رحمه الله: “وإياك والاغترار بقول الأصوليين: (إن الجرح المفسر مقدم)، فإن الرجال ما أرادوا إلا تلك الصورة التي نظروا فيها إلى تجردها عن جميع الأمور إلا الجرح المفسر والتعديل الجملي، وهذه الصورة لم يخالف فيها، وهم أعقل من أن يطردوا هذا القول لما يلزمهم من جرح أئمة الصحابة والتابعين بقول من أظهر الصلاح من الزنادقة ليتوصل إلى ذلك وأمثاله من مكايد الدين.
فإن قلت: إنما تخصيص عموم كلامهم في هذه الصورة، لأنها تؤدي إلى تقديم المظنون على المعلوم لو لم يتأول كلامهم بل خبر الثقة حين صادم المعلوم لا يسمى مظنونا بل كذبا.
قلنا: وكذلك الصور التي ذكرناها يجوز تخصيصها، لأنها من قبيل تقديم الموهوم المرجوح على المظنون الراجح، وقد علم من قواعدهم أن ذلك لا يجوز، فقواعدهم هي المخصصة لعموم كلامهم، على أن مخالفتهم بالدليل جائزة غير ممنوعة وقد اتضح الدليل على ما أخبرته وبان بالإجماع بطلان قطع المعترض على أن الجرح مقدم مطلقا ولله الحمد”15.
قال الناظم16:
الأصل في التعارض المعتبر**** مفسر الجرح نراه يؤثر17
كذا على الجرح الذي قد أبهما **** يقدم التعديل عند الفهما18
لكن ذا الأصل يرى مقيدا ****أي بضوابط لدى أولي الهدى19
وللبحث بقية..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: “ولا فرق بين الطعن في رواة حفاظ الحديث -ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل- وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة، وتأول شيئا منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يُتمسك به، ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه. وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضا” الفرق بين النصيحة والتعيير 8.
2. كما قال الإمام الشوكاني رحمه الله في فتح القدير 2/498.
3. تأمل هذا القيد يا رعاك الله.
4. في تهذيب الكمال 20/168 للحافظ المزي رحمه الله أن ابن المديني رحمه الله قال: “أبو نعيم وعفان صدوقان، لا يقبل كلامهما في الرجال، هؤلاء لا يدعون أحدا إلا وقعوا فيه”.
وقد ذكر هذا الأثر المعلمي اليماني رحمه الله في مقدمته على كتاب الجرح والتعديل 1/ج وقال عقبه: “وأبو نعيم وعفان من الأجلة، والكلمة المذكورة تدل على كثرة كلامهما في الرجال ومع ذلك لا تكاد تجد في كتب الفن نقل شيء من كلامهما”.
5. منها : أن يكون الجارح منحرفا عن المجروح لسبب من الأسباب، فيتوقف في قبول جرحه وتضعيفه للراوي، وقد وقع هذا للإمام ابن سعد في كثير من الرواة، وضعفهم تبعا للواقدي، وكان الواقدي منحرفا عن أهل العراق، فجرح بعضهم متأثرا بهذا السبب.
جاء في هدي الساري 2/164 في ترجمة محارب بن دثار قول الحافظ ابن حجر رحمه الله: “إن تضعيف ابن سعد فيه نظر، لأنه يقلد الواقدي ويعتمد عليه، والواقدي على طريقة أهل المدينة في الانحراف على أهل العراق، فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله”.
ومنها: أن يكون الجرح صدر على سبيل المزاح أو التعنت، فيرد ولا يقبل كما في تذكرة الحفاظ 1/380 في ترجمة عفان بن مسلم الصفار: “قال جعفر بن محمد الصائغ : اجتمع عفان، وعلي بن المديني، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، فقال عفان: ثلاثة يٌضعَّفون في ثلاثة: علي في حماد بن زيد، وأحمد في إبراهيم بن سعد، وأبو بكر في شريك. فقال له علي بن المديني: وعفان في شعبة”.
قال الذهبي معلقا: “قلت: هذا على وجه المزاح والتعنت، فإنهم أربعتهم كتبوا عن المذكورين وهم أحداث، فغيرُهم أثبت في المذكورين منهم”.
6. الرفع والتكميل 264-265.
7. قال الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء 11/82: “ونحن لا ندعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل، لكنهم أكثر الناس صواباً وأندرهم خطأً؛ وأشدهم إنصافاً وأبعدهم عن التحامل، وإذا اتفقوا على تعديلٍ أو جرحٍ فتمسك به واعضض عليه بناجذيك، ولا تتجاوزه فتندم ومن شذ منهم فلا عِبْرة به”.
8. التنكيل للعلامة المعلمي رحمه الله 1/73.
9. أما في خصوص الجرح المجمل فكما قال العلامة المعلمي رحمه الله: “فالتحقيق أن الجرح المجمل يثبت به جرح من لم يعدل نصا ولا حكما، ويوجب التوقف فيمن قد عدل حتى يسفر البحث عما يقتضي قبوله أو رده” التنكيل 1/61.
10. من أمثلته الشهيرة (مع أن سند الخبر فيه مقال) ما ذُكر عن شعبة رحمه الله أنه قيل له: لم تركت حديث فلان ؟ فقال: “رأيته يركض على برذون (وهو ما ليس عربيا من البغال والخيل)، فتركت حديثه” الكفاية الباب :284.
فمع أن شعبة بن الحجاج رحمه الله إمام في الحديث ونقد الرجال، لكن نقده هنا (على القول بثبوته) ليس بصواب، لأن مثل هذا لا يعد من أسباب الجرح المسقط للعدالة.
11. كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في اختصار علوم الحديث (1/285- الباعث الحثيث )، مع التنبه أنه “يكفي قول الواحد في التعديل والتجريح على الصحيح” كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله المصدر نفسه 1/290، وإن كان نُقل عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم: أنه لا يقبل في التزكية إلا اثنان، سواء كانت للشهادة أو للرواية. انظر الكفاية الباب 372 في آخرين.
12. أي: على التعديل.
13. كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله، وقد علق العلامة أحمد شاكر رحمه الله على هذا الموضع كما في الباعث الحثيث 1/289 بقوله: “إذا اجتمع في الراوي جرح مبين السبب وتعديل، فالجرح مقدم، وإن كثر عدد المعدلين، لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل، ولأنه مصدق للمعدل فيما أخبر به عن ظاهر حاله، إلا أن يخبر عن أمر باطن خفي عنه. وقيد الفقهاء ذلك بما إذا لم يقل المعدل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح، ولكنه تاب وحسنت حاله، أو إذا ذكر الجارح سببا معينا للجرح، فنفاه المعدل بما يدل يقينا على بطلان السبب” انظر الكفاية ص:175 وتدريب الراوي 1/309 في آخرين.
14. كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في الصارم المسلول 1/287.
15. الروض الباسم 1/216-217.
16. وهو الشيخ علي بن آدم الإتيوبي في رسالته إيضاح السبيل في شرح إتحاف النبيل بمهمات علم الجرح والتعديل 49.
17. أي : أن الجرح المفسر مقدم على التعديل.
18. انظر الحاشية رقم:9.
19. أي: أن قاعدة الجرح المفسر مقدم على التعديل ليست على إطلاقها. (راجع الحاشية 13 مع فهم ما سيأتي).