مما لا يخفى أن الغلط من طبائع البشر، بل إن الإصرار عليه يكاد يكون -في أحيان ما- طبعا آخر من طبائعهم الإنسانية الناقصة، لكن ثمة فرقا بين “الغلط” و”المغالطة” ذلك أن الغلط سببه الجهل، أو عدم إدراك الحقائق على حقيقتها، أما المغالطة فإنها تحمل معنى الجهل المركب، والتمادي في الغلط إلى منتهاه بحيث تغلق على صاحبها أبواب الرجوع، أو حتى التفكير به!
هكذا حال من وقع في الإجحاف كما نراه من زهد بعض الناس في آخرين وطعنهم فيهم لوقوفهم على ما أخطئوا فيه وزلوا على قلته! مع علمهم بأنه لا يخلوا إنسان من العيب والنقص مهما كان فضله وبلغت منزلته، فـ”كل بني آدم خطاء..”1، و”ليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم، بل ليس من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ليس من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه توبة”2، بل “كيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً”3 .
فالمرء لا يخلو من الأخطاء *** مهما أتى من جيد الآراء
فالله المستعان على هذا المنهج النشاز الذي ظهر في هذه الأعصار من تتبع الأخطاء والعثرات للبراء والفرح بها مع نسيان الفضائل والحسنات .
“ومن ذا الذي لا يخطئ”4، فرحم الله عبد الرحمن بن مهدي لما قال: “من يبرئ نفسه من الخطأ فهو مجنون”5.
والقاعدة العامة التي كان عليها السلف الصالح رضي الله عنهم أنهم إذا تكلَّموا في أحدٍ ألقوا عَباءة الهوى وراءهم ظِهْرِيّاً، وحكموا عليه بما كان به حريّا، فإلى الله المشتكى فيمن صارت مجالسُهم لسقطات النجباء سُوقاً، وغدت ألسنتهم لنشر غلطات الفُضلاء بُوقاً.
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: “فليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب ولا بد، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه.. من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله”6.
وكان السلف كذلك لا يجعلون مطلقا بأدنى مخالفة من غيرهم لهم سُلَّماً إلى القول بتبديعه اعتقاداً أو تفْسيقه عملاً .
قال الإمام الذَّهبي رحمه الله: “لو أنَّا كلما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له، قُمنا عليه، وبدَّعناه، وهجرناه : لما سلم معنا لا ابن نصْر، ولا ابن منْده، ولا من هو أكبر منهما..، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة!”7.
وحتَّى تكون -أيُّها القارئ- على تصوِّرٍ واضح؛ من غير غُلوِّ مادح، أو هتك جارح، فنقول: “المنصف من اغتفر قليل خطإ المرء في كثير صوابه”8.
فهذه القاعدة تمثل منهجا صحيحا للسلف الصالح وأهل السنة في الحكم على الأشخاص، فقد كانوا أصحاب علم واجتهاد يُخوِّل لهم الحكم على الأنام؛ لأن الأمرَ دين يتقرب به إلى ذي الجلال والإكرام.
كما كانوا: “ذوي عدلٍ في مدحهم وفي ذمِّهم، لا يحملهم الهوى عند وجود المُراد على الإفراط في المدح، ولا يحملهم الهوى عند تعذُّر المقصود على نسيان الفضائل والمناقب وتعديد المساوئ والمثالب”9.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “من قواعد الشرع والحكمة أيضا أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث يقع فيه..”10، “فالبحر الخضم وإن ولغ فيه الكلب فهو مستغن عن تطهير المتطهرين، وتكلف المتكلفين”11.
ما ضرَّ نهر الفُرات يومـــاً *** أن خاض بعضُ الكلاب فيه
وتقرير ذلك مبناه على اعتبار الغالب على المرء، على حد قول أهل العلم: “الشيء يحكم له أو عليه بما غلب عليه”، و”الأحكام إنما تناط بالغالب”12، وفي ذلك قال الشافعي رحمه الله: “فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قَبِلتُ شهادته وروايته، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها”13.
“وبذلك جرت عادة الخلق أنهم يعَدِّلون العادل بالغالب من أفعاله، وربما أساء، ويفسقون الفاسق بالغالب من أفعاله، وربما أحسن” 14.
وعليه فإن العبرة في تقويم الأشخاص كثرة المحاسن والفضائل، كما قال الحافظ الذهبي رحمه الله: “ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الإتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ وإنما العبرة بكثرة المحاسن” 15.
مع التنبيه -هنا- أن اعتبار غلبة المحاسن صحيح مع اعتبار سلامة المنهج، ووضوح التصور، وصفاء الاعتقاد، وصحة الأصول، بل نقول مستفهمين استفهاما تقريريا: وهل يتصور صحة ذلك إلا بذلك؟!
وقد وضح هذا الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض بيانه لزلة وقع فيها الشيخ الهروي رحمه الله صاحب كتاب المنازل حيث قال في حقه: “ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه، وإساءة الظن به، فمحلُّه من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل، وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، والكامل من عد خطؤه، ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب الذي زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام”16.
لكن عند الجهل والظلم فليس بمُسْتغرب أن يسمع المرءُ مالا يُسْتَعذب، أناس طعنوا على صاحب الأصول الصحيحة، والقواعد الفصيحة لزلة عرضت وإن كانت متحققة، أو مزلة متوهمة، ولم يشتغلوا بأن يَنْقِموا على عَلْمَانيٍّ قد فصل الدين عن الحياة وعرَّاه، ولا على مُسْتشرقٍ قد حرَّف مصادر الإسلام وأوهى عُراه، ولا على مرتزق مأجور يكتب في كُلِّ صحيفةٍ وجريدة، ولا على مُشكِّكٍ يُصبِّحنا ويُمسِّينا بِشُبهٍ جديدة، ولا على مبتدع يَنْشُر بيْننا الكبائِر، ولا على عدوٍّ ٍ يتربَّص بنا الدَّوائِر.
إذاً.. فعلى من ينقمون؟! وليس القصد عدم رد خطأ الموافق بالضوابط الصحاح إذا ظهر ولاح، فإن مجال الكلام وضاح.
إذن فالمرء يمدح بكثرة ما له من الفضائل والمحاسن، ومن الاعتساف والخروج عن الفطرة السوية والإنصاف: أن ندفن كثرة خير المرء لقلة زلـله وعيبه، فإنه مما هو “معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها”17.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: “إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن”18.
وفي الختام هذه مقالتي بين أيديكم أدْعو بها كُلَّ عاقلٍ رشيد، وأُذكِّر بها من كان له قلْبٌ أو ألقى السَّمع وهو شهيد، أن يتَّبع الحقَّ الواضح والقول السَّديد.
نعم.. قد يتطاول المُسْلم على أخيه، وينْهش من عرْضه دون تلافيه، والقلْب فيه ما فيه، ولكنَّ العاقل يرجع إلى الحق بأدنى تنبيه، فالحق “أحق أن يتبع”19، فالزم ذلك أيها النبيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذي رحمه الله وغيره وهو في صحيح سنن ابن ماجة 2/418.
2. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 11/66-67.
3. مدارج السالكين 2/522.
4. قالها الإمام مالك رحمه الله انظر الآداب الشرعية لابن مفلح رحمه الله 2/142.
5. نفسه.
6. الكفاية 79.
7. سير أعلام النبلاء عند ترجمة محمد بن نصر المروزي رحمه الله.
8. قالها الحافظ ابن رجب رحمه الله، وعلق عليها الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله بقوله: “الإنسان لا يخلو من الخطأ، لكن المنصف يرى الصواب ويرى الخطأ، فإذا صار الصواب أكثر، فليغتفر الخطأ، وإن كان الخطأ أكثر، اضمحل به الصواب” انظر تقرير القواعد وتحرير الفوائد لابن رجب رحمه الله، ضبط وتعليق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان 1/4.
9. تضمين مما قاله عماد الدين أبو العباس الواسطي رحمه الله في العقود الدرية 291.
10. مفتاح دار السعادة 1/ 529.
11. كتاب حقيقة القولين لأبي حامد الغزالي رحمه الله 25.
12. الفتح 2/199.
13. إرشاد الفحول 98.
14. من أقوال أبي الحسن الماوردي رحمه الله كما في درر السلوك 65.
15. السير 20/46.
16. المدارج 1/219.
17. مفتاح دار السعادة 1/531.
18. السير 8/378.
19. تضمين مما قاله عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، انظر إرواء الغليل 7/318.