واأسفاه.. “الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا لمجرد الاجتهاد” رشيد مومن الإدريسي

مما هو معلوم عند العلماء ومقرر عند الفهماء أن وقوع الخلاف أمر ضروري لا بد منه إذ هو “مركوز في فطرنا مطبوع في خلقنا”1، وعليه فـ”اختلاف الآراء من سنن هذا الكون”2؛ والحكمة منه ابتلاء العباد واختبارهم على ما هو مشهور كما أشار إليه ابن الوزير اليماني رحمه الله بقوله: “والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف، لتعظيم الثواب”3.

ولذا فالواجب على الناس عند المخالفة والمنازعة أن يراعوا حق الله تعالى في ذلك دون مكابرة ولا معاندة بإعطاء كل ذي حق حقه، فقد قال الله جل في علاه: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)..
ومن ذلك مراعاة حكم الخلاف الاجتهادي المعتبر في شريعتنا ومعرفة أدبه إذا جرى فيما بيننا دون تفريط ولا شطط ، ولا ندعو إلى ذلك في الأمور الفقهية فحسب بل كذلك في المسائل المنهجية؛ حيث ظن البعض أن الاختلاف السائغ خاص بالأمر الأول مع أن له متعلقا بالمجال الثاني كذلك؛ في قضايا مرتبطة بتنوع واقعها زمانا، أوتباين محالِّها مكانا، أو تجده اختلافا في أشخاص تردد فيهم القول جرحا وتعديلا مع الاتفاق في المسلك ضبطا وتأصيلا، أو أن الأمر راجع إلى تقدير المصلحة والمفسدة نظرا في الحال وتلمحا للمآل؛ إلى غير ذلك من متعلقات الخلافات الاجتهادية في الأمور المنهجية خاصة التي قال فيها الإمام الشاطبي رحمه الله: “محال الاجتهاد هي ما ترددت بين طرفين، وضح في كل واحد منها قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات”4.
ومن تم لا يصح بحال أن نجعل ذلك من أسباب التعصب لأن التلبس بهذا الأخير في مثل ذلك من شعار الفرقة التي يدعوا إليها الشيطان، ومن عوامل إشعال نار العداوة والافتتان مع أن “الواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك”5 طاعة للرحمن.
لكن صاحب الهوى لا يرى إلا الهوى، وإن تكلم فبهوى، وإذا فعل فلهوى، يعيش في محيط هواه الذي أضله وأعماه وأصمه والذي أسره وقيده “أعاذنا الله وإياكم من الآراء المخترعة والأهواء المتبعة والمذاهب المبتدعة، فإن أهلها خرجوا عن اجتماع إلى شتات وعن نظام إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن ائتلاف إلى اختلاف، وعن محبة إلى بغضة، وعن نصيحة وموالاة إلى غش ومعاداة”6.
فواأسفاه أن صار هذا النوع من الخلافات المنهجية حاملا لنا على التباين والتحزب مع أنها مسائل اجتهادية، فـ”كيف يرد الاجتهاد بمثله؟”7 ولماذا تحصل البلية؟ فإن “المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية ولكن إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوك واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافا لا يضر”8.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “..لو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا، لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة”9.
ومع هذا يأبى من ضعف فهمه وساء لسانه إلا تضييع المودة والاجتماع وفتح باب الفرقة والنزاع ولكن هكذا حال “الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره؟”10 حتى حصل من جراء صنيعه نسبة الباطل إلى أهل السنة لأنه ينتسب إليهم وينقل عن علمائهم وما آفته إلا النظر الكاسد والتصرف الفاسد ذلكم أنه “إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل، أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل: كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى أهل الحق”11.
فالله الله في السير على منهج السلف الصالح، والحذر من الابتداع والعمل الطالح، واحرص على عفة لسانك والاعتزاز بدينك فإن “من عز عليه دينه تورع، ومن هان عليه تبدع”12.
والمقصود معرفة صورة الخلاف الاجتهادي فإن “الاجتماع في الخفيات محال مثلما أن الاختلاف في الجليات محال”13.
وأجاد من قال 14:
فليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر
كما ينبغي أن يعلم أن “الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد، كما قال تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).. فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل من نوع بغي”15
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه16 ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد17 بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين”18.
وعليه نص العلماء على أنه “لا إنكار في مسائل الاجتهاد” لا مسائل الخلاف فتأمل وبالعلم تجمل19 كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “وقولهم: (إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها) ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مَسَاغ لم تنكر على مَنْ عمل بها مجتهداً أو مقلداً”20.
وفي الختام: نؤكد أن مجرد التخمين والتقول بلا دليل في أمور المنهاج والتأصيل ليس سبيل العلماء والطلبة النجباء، إنما سبيلهم التلقي عن الأشياخ العارفين، وفلي الكتب وإدمان النظر في مقالات السلف الصالحين وأئمة الدين، مع التنسك وسؤال المدد والعون من رب العالمين، فإن العلم نور يقذفه الله في قلوب المتقين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. الإنصاف في التنبيه على أسباب الاختلاف لابن السيد البطليوسي رحمه الله 27.
2. الجرح والتعديل للقاسمي رحمه الله 45.
3. إيثار الحق على الخلق 86
4. الموافقات 4/155
5. كما قال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام 2/732
6. قاله الإمام ابن بطة رحمه الله في الإبانة 1/388-389
7. كما قال الإمام الذهبي رحمه الله في السير 13/97
8. قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة 2/519
9. الفتاوي 24/173
10. كما قال الإمام الذهبي رحمه الله في السير 11/321
11. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مناظرة في الحمد والشكر 13
12. قاله البرزلي رحمه الله في فتاويه 1/88
13. إيثار الحق على الخلق لابن الوزير رحمه الله 198
14. قاله أبو الحسن الحصار رحمه الله في كتابه الناسخ والمنسوخ نقلا عن كتاب الإتقان للسيوطي رحمه الله 1/11
15. الاستقامة لابن تيمية رحمه الله 1/31
16. وقد ينكر عليه بمعنى بيان ضعف ما ذهب إليه فتنبه كما قال ابن تيمية رحمه الله: “وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل. أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً. وإن لم يكن كذلك فإنه يُنكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء” بيان الدليل من بطلان التحليل 210.
ولذا “عند النقل عن العلماء المتقدمين يستحسن تعيين مرادهم من الإنكار ومرتبته، وهل هو من باب العقوبة والزجر، أو من باب التعقب والبيان” أصول نقد المخالف للموصلي ص:56 حاشية:2
17. وفي هذا المقام دسيسة نبه عليها غير واحد من العلماء كالعلامة الشنقيطي رحمه الله حيث قال: “قال خاتمة المحققين ابن حجر الهيثمي في شرحه على الأربعين النووية..ما نصه: (وها هنا دسيسة ينبغي التفطن لها وهي أن المجتهد بحق قد يرى رأيا مرجوحا، فهو وإن أثيب عليه قد لا يكون المنتصر لقوله كذلك؛ وهو ما إذا قصد بانتصاره له أنه من أقوال متبوعه، ولو كان من أقوال غيره لم ينتصر له، لأن انتصاره حينئذ مشوب بإرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأن لا ينسب إلى الخطأ، وهذا كله قادح في قصد الانتصار للحق، فافهم ذلك فإنه مهم ويخفى على كثيرين)” الصوارم والأسنة 260.
18. الفتاوي 20/257.
19. انظر السيل الجرار 4/588.
20. إعلام الموقعين 3/300-301.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *