كثير ممن سلك طريق الطلب والدعوة قد حصلت بهم الفرقة والفجوة، حيث تعلموا الهدم أكثر من البناء فجعلوا الفتوة مقام الأخوة، والواجب الشرعي هو التواصل لا الفرقة والوحشة والتقابل، يتلمح البصير فيهم عجلة الإقدام دون تؤدة الإحجام، جهل وغيض وسوء خلق وتعبد بالاختلاف، فضعف حبل الأخوة مع أن الحفاظ عليه أغلى وأنفع للوصول إلى الأهداف، ولا نخفي ما هو باد فقد تسلل هذا الجو إلى من انتسبوا إلى الأسلاف، “فأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن، وكما بغت الناصبة على علي رضي الله عنه وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به”1.
أليس أهل السنة أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق؟! أليسوا هم نقاوة المسلمين وخير الناس للناس؟! فعلام هذا الجو المكفهر المضطرب وهذا البأس والإفلاس؟! وهل صرنا لا نحسن حتى فيما بيننا إلا العناد، والجدل ببذاءة وألسنة سوء حداد، تضلل وتطعن في العباد بلا حجة ولا سناد؟!
وكثيرا ما تجد الباعث لذلك: خلافات اجتهادية، أو أحقاد شخصية، أو حسد على نعمة من رب البرية، أو شهوة الظهور في الساحة العلمية..وهلم جرا!!
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق”2.
ولقد سار على هذا الخلق الرفيع سلفنا الصالح الكرام والأئمة الأعلام، فهذا أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه لما رأى سبعون رأسا من الخوارج وقد جزت تلك الرؤوس ونصبت على درج دمشق، قال: “سبحان الله ما يصنع الشيطان ببني آدم، كلاب جهنم شر قتلى تحت ظل السماء ثم بكى قائلا: بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام”3.
وهذا الإمام أحمد رحمه الله يثبت على كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم، ويقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصبر على ما أصابه من أنواع الإيذاء والفتنة من قبل رؤوس المعتزلة آنذاك ومن تبعهم من الخلفاء، ومع ذلك البطش الذي لقيه إلا أننا نجده يقول: “كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعا وقد جعلت أبا إسحاق (يعني: المعتصم) في حل، رأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر رضي الله عنه بالعفو في قصة مسطح، ثم قال: وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سبيلك”4.
وها هو الإمام ابن تيمية رحمه الله يقول عنه تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله: “جئته يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له”5.
ولما مرض رحمه الله (مرض الوفاة) دخل عليه أحدهم فاعتذر له، والتمس منه أن يحلله فأجاب الشيخ: “إني أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق، وإني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي، كونه فعل ذلك مقلدا غيره”6.
وقال أحد خصومه (وهو ابن مخلوف): “ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا”7.
إن أخلاقا عالية كهذه لجديرة بأن تفتح أكمام العقول فتنساب فيضا نورانيا يضيء الأرواح ويحيي القلوب، وكلما تقادم بها الزمن لم تزدد مع الأيام إلا تألقا ورفعة، وكلما أبحرت فيها الأفهام انسابت في الأقلام لآلئ وضاءة، فكانت تاريخا ثريا للمؤرخ الصدوق، وزادا تربويا لكل فقيه ورع، وخلقا ساميا لكل مسلم صادق.
ومن تجليات ذلك كذلك عند أهل العلم والإنصاف ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: “..وإذا قال المؤمن: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة، أو أذنب ذنبا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنيتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا، بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون في النار. فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج..”8.
لكن ويا أسفاه عند ضعف النظر والعلم، وسوء الفهم مع الوهم صرنا نعادي من المسلمين بل من معنا في أصول المنهاج الحق المستبين أكثر من معاداة اليهود والنصارى الضالين!!
يحكي الإمام الشوكاني رحمه الله في سياق الكلام عن التعصب المذموم جهل بعض طلاب العلم على عالم عمل ببعض السنن المخالفة للمذهب، فيقول: “عادوه عداوة أشد من عداوتهم لليهود والنصارى، وظنوا أنه على شريعة آخرة، وعلى دين غير دين الإسلام، وأوقعوا في أذهان العوام أنه ناصبي،…فانظر هذا الصنيع الشنيع الذي هو شبيه بلعب الصبيان”9.
إن المنزلة العظيمة والدعامة المتينة للتراحم هو الحرص على الجماعة والتلاحم مع القيام بما هو واجب في حينه ومحله وبشرطه وضابطه فـ”الجماعة رحمة والفرقة عذاب”10، ولذا تذكر يا رعاك الله أن “المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد”11 والمغالبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 1/482-483
2. الرد على البكري 256.
3. الاعتصام للشاطبي رحمه الله 1/71
4. مناقب الإمام أحمد رحمه الله لابن الجوزي رحمه الله، وفي رواية قال أبو علي الحسين بن عبد الله الخرقي: بت مع أحمد بن حنبل ليلة، فلم أره ينام إلا يبكي إلى أن أصبح، فقلت: أبا عبد الله كثر بكاؤك الليلة، فما السبب؟ فقال لي: ذكرت ضرب المعتصم إياي ومر بي في الدرس {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } فسجدت، وأحللت من ضربني في السجود”.
وقال إبراهيم الحربي: “أحل أحمد بن حنبل من حضر ضربه وكل من شايع فيه والمعتصم، وقال: إلا ابن أبي دؤاد داعية لا حللته”.
5. مدارج السالكين 2/345
6. الأعلام العلية 82
7. البداية والنهاية 14/54
8. منهاج السنة 5/240-241.
9. أدب الطلب 76
10. كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن، انظر السلسلة الصحيحة 2/166.
11. الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي رحمه الله 8/257.