مهمات في الجرح والتعديل.. “لم يكن هذا العلم في زمان قط تعلمه أوجب منه في زماننا هذا، لذهاب من كان يحسن هذا الشأن” رشيد مومن الإدريسي

من الدلائل الملموسة على كفالة الله تعالى بحفظ هذا الدين وصونه من المحرفين شرعية الجرح والتعديل الذي دلت عليه نصوص الشرع المتين؛ إلا أن هذا الباب كغيره من الأبواب المرعية لا بد من حياطته بقواعد أثرية؛ وضوابط علمية؛ وأخلاق فطرية؛ تجنب المتكلم في الناس من اتباع الأهواء الرديَّة فإن “الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع1″2 أما إذا عرفت -يا رعاك الله- “أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك فبعد قليل ينكشف البهرج”3 وما تدعيه، وتنجلي مخالفتك لطرائق السلف الصالح وما هم عليه؛ فقد كانوا رحمهم الله إذا تكلموا في أحد ألقوا عباءة الهوى ورائهم ظهريا، وحكموا عليه بما كان به حريّا، فلم يصدهم عن قول الحق حسد أو حقد على الرجال، ولا منافسة في جاه أو مال، فإن “أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام”4.

وكانوا يتورعون عن الجرح أو التعديل من غير برهان ودليل، فإذا جهلوا -بل إذا شكوا- توقفوا، وإذا علموا -بل إذا أيقنوا- تخوفوا، فكيف بمن يتورع عن خمر وبضع، وقد أكل من لحوم أهل العلم والفضل حتى شبع؟!
يذكر الإمام السخاوي رحمه الله في ترجمته المفردة لشيخه ابن حجر رحمه الله5: أن ابن حجر قال عن الناقل للجرح والتعديل: “يلزمه تحري الصدق في النقل ولا يعتمد على مجرد التشنيع من كل أحد؛ فإن للناس أغراضا متفاوتة6، بل ينظر في الناقل للجرح والتعديل فإن كان ثقة ليس بمتهم في المنقول عنه فليعتمده وإن سماه فهو أبرأ لساحته، وإن شك فيه فيقتصر على الإشارة ولا يجزم بما يتردد فيه؛ بل يأتي فيه بصيغة التمريض، وإن كان الناقل له ممن ينسب إلى المجازفة أو كان بينه وبين المنقول عنه حظ نفس فليجتنب النقل عنه فإن اضطر إلى ذلك فليكشف عنه”.
كما أنهم لا يجرحون أحدا بمجرد أوهام، ولا يقدحون فيه بلازم كلام، بل يلزمون التأكد والتثبت، وإلا وسعهم السكوت والصمت، وصدق من قال: “متى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ بينتموه”7.
الحمد لله الذي قد أنزلا حثا على الجرح بيانه العلا
(إن جاءكم) فأوجب التبينا في خبر الفاسق حتى نأمنا
وكانوا أصحاب علم واجتهاد يخول لهم الحكم على العباد، لا كمن صارت ألسنتهم مثل السيوف الحداد؛ وغدت مواقعهم لنشر غلطات الناس بلا علم ولا سناد؛ مع أن هذا المقام خاصة يحتاج إلى أهلية8 لا مجرد التقول والعناد، ولهذا قال ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله: “والكلام في الرجال ونقدهم يستدعي أمورا في تعديلهم وردهم، منها: أن يكون المتكلم عارفا بمراتب الرجال وأحوالهم في الانحراف والاعتدال، ومراتبهم من الأقوال والأفعال، وأن يكون من أهل الورع والتقوى، مجانبا للعصبية والهوى، خاليا من التساهل، عاريا من غرض النفس بالتحامل، مع العدالة في نفسه والإتقان، والمعرفة بالأسباب التي يجرح بمثلها الإنسان، وإلا لم يقبل قوله فيمن تكلم وكان ممن اغتاب وفاه بمحرم..”9.
والشرط في الجارح والمعدل كونه عدلا ورعا في النحل
ويقظا غير مغفل عَرَف أسباب تعديل وجرح واغترف
فالجرح خاصة10 -دون مجاوزة الحد- من المؤهلين11 لا بد منه حتى نكشف تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ولذا “تجوز غيبة المبتدع بل ذكره بما عليه غائبا وحاضرا إذا كان المقصود التنبيه على حاله ليحذر”12.
وهذا القدح بضابطه وشرطه ليس من الغيبة المحرمة لأن الغرض منه صحيح شرعي ولا يمكن الوصول إليه إلا بذلك؛ ومن تم قٌرر أن “الكلام في الجرح والتعديل جائز قد أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها..”13.
وقال الإمام النووي رحمه الله: “اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهي ستة أسباب..(وذكر ثلاثة)، وقال: الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه منها:
جرح المجروحين من الرواة والشهود14 وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة..”15.
وقد تكلم جماعات من أهل العلم عما استثني من الغيبة المحرمة16، ونظم ذلك آخرون 17 منهم الشيخ الفاضل علي بن آدم بن موسى الإتيوبي 18 حيث قال:
يا طالبا فائدة جليله اعلم هداك الله للفضيله
أن اغتياب الشخص حيا أو لا محرم قطعا بنص يتلى
لكنه لغرض صحيح أبيح عدها ذوو الترجيح
فذكروها ستة تظلم واستفت واستعن لردع مجرم
وعب مجاهرا بفسق أو بدع بما به جاهرا لا بما امتنع
وعرفن بلقب من عرفا به كقولك رأيت الأحنفا
وحذرن من شر ذي الشر إذا تخاف أن يلحق بالناس الأذى
وفي سوى هذا احذرن لا تغتب تكن موفقا لنيل الأرب
دليله “بئس أخو العشيرة”19 قاله إذ رأى خبيث السيرة
قال ابن حبان رحمه الله: “وإني لأرجو أن الله تبارك وتعالى يؤيد من فعل ذلك – يعني: الجرح- بروح القدس كما دعا النبي عليه الصلاة والسلام لحسان بذب الكذب عنه وقال: (اللهم أيده بروح القدس)، ولم يكن هذا العلم في زمان قط تعلمه أوجب منه في زماننا هذا، لذهاب من كان يحسن هذا الشأن20″21.
ومن عظيم ما ينبغي أن ينتبه إليه فيما نحن بصدده تصور حقيقة كلام أهل العلم والفضل في الغير وأنه على وجهين22: ما يخرج مخرج الذم دون قصد الحكم، وما يصدر على وجه الحكم بغض النظر عن الخطأ والصواب فتأمل وبالعلم تجمل.
وليعلم كذلك أن باب الجرح والتعديل يعرض فيه النزاع من المؤهلين فيه كذلك فـ”قد اختلف الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال، كما اختلفوا في سوى ذلك من العلم”23، مما يستوجب ضبط الأمر فقد يكون الاختلاف في جرح رجل مثلا من محال الاجتهاد الذي تسع له الصدور دون مبالغة في تسويد السطور، و تحريك الفتنة وإشعال المحنة ومحبة الظهور، مع مراعاة المصالح والمفاسد والنظر في المآل وعواقب الأمور، والخشية والخوف من الله فإن إليه المرجع والنشور، فـ”اختلاف هؤلاء (المحدثين) كاختلاف الفقهاء، كل ذلك يقتضيه الاجتهاد، فإن الحاكم إذا شهد عنده بجرح شخص، اجتهد في أن ذلك القدر مؤثر أم لا؟
وكذلك المحدث إذا أراد الاحتجاج بحديث شخص، ونقل إليه فيه جرح، اجتهد فيه هل هو مؤثر أم لا؟
ويجري الكلام عنده فيما يكون جرحا، وفي تفسير الجرح وعدمه، وفي اشتراط العدد في ذلك -كما يجري عند الفقيه-.
ولا فرق بين أن يكون الجارح مخبرا بذلك للمحدث مشافهة، أو ناقلا له عن غيره بطريقه والله عز وجل أعلم”24.
قال العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله: “ومعرفة الرجال علم واسع، ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه لإطلاعه على سبب جارح، وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفته أن ذلك السبب غير جارح: إما لأن جنسه غير جارح، أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح -وهذا باب واسع-، وللعلماء بالرجال وأحوالهم في ذلك من الإجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم في علومهم25″26.
فلا تغفل رحمك الله عن هذا الذي نبهناك إليه أو ذكرناك إياه؛ لعلك تهتدي إلى الصواب؛ وما هو إلا غيض من فيض مما يخص هذا الباب، فاحرص على ضبط قواعده وفهم ضوابطه؛ ولا تهمل بعضها لتصير من أولي الألباب، وتجتنب مقالة السوء والتعصب للأصحاب، فإن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله بلا ارتياب، وفقنا الله وإياك لتبصر الأمور كما هي إنه كريم وهاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. وصاحب العلم لا يظلم، والورع لا يتسع …
2. كما قال الإمام الذهبي رحمه الله في الميزان 3/46.
3. تذكرة الحفاظ للذهبي رحمه الله 1/4.
4. قالها الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله كما في تدريب الراوي للإمام السيوطي رحمه الله 2/369، والمراد بالحكام في كلامه: القضاة، لأنهم القضاة في أعراض الناس.
5. الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ ابن حجر 2/686.
6. ولذلك قال ابن جرير رحمه الله: “لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار، لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه” مقدمة الفتح لابن حجر رحمه الله 1/427.
7. قاله الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما في تاريخ نجد 2/161.
8. ولذلك ألف السخاوي رحمه الله رسالة سماها: “المتكلمون في الرجال”، وكذا الإمام الذهبي رحمه الله صنف رسالة وسمها بـ”ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل”.
9. الرد الوافر 14.
10. قال العلامة المعلمي رحمه الله: “..كل ما يخشى في الذم والجرح يخشى في الثناء والتعديل..” التنكيل 1/58.
11. قال العلامة المعلمي رحمه الله :”قد كان من أكابر المحدثين وأجلهم من يتكلم في الرواة فلا يعول عليه ولا يلتفت إليه” مقدمة الجرح والتعديل.
12. فتاوي ابن الصلاح رحمه الله 2/498.
13. قاله الإمام ابن رجب رحمه الله في شرح علل الترمذي 1/44.
14. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “وأما الشخص المعين فيذكر ما فيه من الشر في مواضع” جامع الرسائل لابن تيمية 347.
15. رياض الصالحين باب (244).
16. كالقرافي في الفروق، واللكنوي في الرفع والتكميل، والشوكاني في دفع الريبة في آخرين رحمة الله عليهم جميعا.
17. انظر دفع الريبة، وكذا نظم المسنوي رحمه الله ذلك كما في طلائع الغزو الفكري للشيخ وجاج الحسن 42-43.
18. في إيضاح السبيل في شرح إتحاف النبيل بمهمات علم الجرح والتعديل 21-22.
19. إشارة إلى الحديث في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها.
قال الحاكم رحمه الله في المدخل إلى الإكليل 139 عند هذا الحديث: “فيه الدلالة على أن الإخبار عما في الرجل على الديانة ليس بغيبة”.
20. فماذا يا ترى سنقول في مثل زماننا هذا الذي صار فيه باب الجرح والتعديل قائما على الحظوظ النفسية، وردود الفعل الدنية، والأهواء والعصبية، والحزبية والطائفية.. إلا من رحم رب البرية؟!
21. مقدمة كتاب المجروحين.
22. انظر التنكيل للمعلمي رحمه الله 1/54 و1/65.
23. كما قال الإمام الترمذي في العلل الصغير 5/756.
24. قاله الحافظ المنذري رحمه الله في جواب أسئلة في الجرح والتعديل 83.
25. انظر الكلام نفسه في رفع الملام لشيخ الإسلام رحمه الله 7.
26. قواعد التحديث 377.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *