فقه المصالح والقبائح… “ترك الخير الكثير الغالب لأجل الشر القليل المغلوب شر كثير” رشيد مومن الإدريسي

من الفقه الغائب عند كثير من النخبة فضلا عن غيرهم فقه المصالح والمفاسد، فبعدم مراعاته يظهر الخلاف ويشتد، وتشيع الفرقة وتمتد، كما هو واقع من جراء الاختلاف في بعض المسائل الدعوية والمنهجية مع صحة الأصول وسلامة المنهاج، لكن المشكلة في ضبط مسالك الحجاج، والقصد التنبيه على تباين الأنظار في خصوص وقائع معينة عند التنزيل، حيث يتمسك البعض بالأصل الشرعي في المسألة والبعض الآخر يعتبرها مسألة خاصة تستوجب نظرا خاصا يراعى فيه الموازنة في إطار المصالح والمفاسد، وربما تتوسع هوة الفرقة أكثر بين أصحاب الطائفة الثانية لاختلافهم في تقدير المصالح والمفاسد!!

وأستحضر في هذا المقام ما ذكره الإمام ابن قتيبة رحمه الله حيث قال: “قد كنا زمانا نعتذر من الجهل، فقد صرنا الآن إلى الاعتذار من العلم، وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة، فصرنا نرضى بالسلامة، وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال، ولا ينكر مع تغير الزمان، وفي الله خلف وهو المستعان”1.
فاعلم يا رعاك الله أن “الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الامكان” 2، فالشريعة الغراء هي النور المشتمل على الإحراق لدرء المضار، والمتصف بالإشراق جلبا للمسار.
الدين مبني على المصالح *** في جلبها والدرء للقبائح
ومن دلائل ذلك ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام خشية حصول مفسدة أعظم.
قال العلامة العيني رحمه الله: “قال النووي: فيه أنه إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدء بالأهم، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن رد الكعبة إلى قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة ولكن يعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا..”3.
والمطلع ببصيرة على ما قرره أهل العلم في خصوص هذا الشأن، يحصل له الاقتراب، فيضبط فقه المصالح والمفاسد ويرفع عنه الحجاب.
ومن وقائع ذلك ما قرره ابن تيمية رحمه الله ممثلا لهذه المسالك أنه “إذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس”4، ويقول موضحا من ذلك كذلك أنه “إذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة: لم ينهوا عنه”5.
فتأمل رحمك الله في هذا الفقه العالي فإن علم الرجل في الشريعة يتبدي حين تواجهه في العمل الواحد مصلحتان أو مفسدتان لا بد من وقوع واحدة منها، حيث يدفعه فقهه وإنصافه إلى الموازنة الصحيحة، فالفقه حقيقة يكمن في معرفة “خير الخيرين وشر الشرين.. وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات”6.
والعمل وفق ذلك أنه “إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب على الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة”7.
فإن تزاحم عدد المصالح *** يقدم الأعلى من المصالح
وضده تزاحم المفاسد *** يرتكب الأدنى من المفاسد
ومن المهمات التي ينبغي التنصيص عليها -فيما نحن بصدده- أن يعلم أن باب التعارض والتزاحم يتسع العمل به كلما نقص في الناس أثر النبوة، فليلتفت إذن إلى هذا حتى لا تضيق الصدور، ولا يعترض على ما هو مرقوم في السطور.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “التعارض باب واسع جدا لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة..”8.
هذا مع العلم أن “اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، و إلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام”9.
فلتراع وفقك الله هذا الفقه الجليل ولو واقعت مفسدة مقابل إقامة مصلحة راجحة10 بشرط أن تكون متحققة لا موهومة11 “..فترك الخير الكثير الغالب لأجل الشر القليل المغلوب شر كثير”12.
فأين هذا الفقه -اليوم- في صفوف بعض المشتغلين في ساحة الدعوة -هنا، وهناك، وهنالك!- بحيث لا يعرفون المصالح والمفاسد، فضلا عن أن يرجحوا الأعلى منهما -جلبا، أو دفعا- بحسب الظروف والوقائع؟!
هذا كما ينكشف الجهل عند التنزيل في محال من البعض الآخر فيقع الجدال مع أن “أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها، وتحديدها؟ وإنما تعرف -تقريبا- لعزة الوقوف على تحديدها”13، وعليه فالآراء قد “تختلف في معرفة الصالح والأصلح، والفاسد والأفسد، وفي معرفة خير الخيرين، وشر الشرين”14، كل ذلك يجعل المسألة المعينة من أبواب الاجتهاد التي تتسع لها الصدور دون إلزام ولا عناد فإن “أئمة أهل السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يكرهون أحدا عليه”15.
فاحذر خاصة عند الحال الذي ذكرناه قريبا أن تتَّخذ من المُخالفة سُلَّماً تصل به إلى التشفِّي من خصْمك، ومفْتاحاً تفْتح به ضغائِن قلبك، ومدْفعاً تُرسل منه قذائِف سبِّك الجريئة على أراضي خصْمك البريئة!!
إذا لم يكن للمرء عينٌ صحيحةٌ فلا غرْو أنْ يرتابَ والصُّبحُ مُسْفـــــــرُ
ومنْ يتَّبع لهواه أعمى بصيـــرة ومن كان أعمى في الدُّجى كيف يُبْصر
هذه مقالتي المتواضعة، وأقولها على استحياء فإن الموضوع جليل، لكنها إشارات أدْعو بها كُل عاقلٍ رشيد، وأُذكِّر بها من كان له قلْبٌ أو ألقى السَّمع وهو شهيد، بأن يتَّبع الحقَّ الواضح والقول السَّديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. مقدمة كتاب إصلاح غلط أبي عبيد 46-47.
2. المسائل الماردينية لابن تيمية رحمه الله 63.
3. عمدة القاري 2/204.
4. الفتاوي 28/212.
5. نفسه 14/472.
6. نفسه 2/407.
7. نفسه 20/57.
8. نفسه 20/57-58.
9. نفسه 28/129.
10. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “القول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة كما قال تعالى في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}” الفتاوي 3/6.
11. فإن “الموهوم لا يدفع المعلوم و..المجهول لا يعرض المحقق ” القواعد الحسان للعلامة السعدي رحمه الله 127.
12. كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة 2/14.
13. القواعد الصغرى للعز بن عبد السلام رحمه الله 82.
14. نفسه 107.
15. قاله شيخ الإسلام رحمه الله قي الفتاوي الكبرى 5/12.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *