مما يعكر صفاء أهل التوحيد والسنة في سيرهم إلى ربهم -عقيدة ومنهاجا ودعوة- أن يطوف بينهم طائف الشيطان بالتحريش، وإلقاء العداوة والبغضاء في ساعة غفلة، فيبغي بعضهم على بعض، وينتقص بعضهم بعضا في عصر ظهرت فيه ظلمات البدعة، وضعفت فيه آثار النبوة، لذا صار الكلام في أسباب حفظ الدين -علما وعملا- ومعالجة الداء العضال الذي يعرض لأهله مهما في بابه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل عموم البلوى وغلبة الفوضى.
ومن ذلك ضرورة العلم بجنس المسائل المتنازع فيها، ومن أي باب يكون الكلام عليها؟
هل هي من الخلافات الظنيات؟
أو هي مصادمة للنصوص والقواعد الواضحات؟
وهل التنازع راجع إلى الأصول والكليات؟
أو له تعلق بتصور المسائل وتحقيق المناطات؟
..فإن العلم بهذه الفروق ونحوها في هذا الباب من دقيق العلم الذي ينجي من الظلم والجهالات.
فكن -يا رعاك الله- بالمسألة المُختلَف فيها عالماً، ولما تحويه من معانٍ فاهماً، وذلك: بأن تعرف ما قيل فيها، ودليل كل قولٍ عليها، ومعرفة مرتبتها، حتى إذا تكلَّمت كنت على علم، وإذا سكت سكت بحلم، وإذا خولفت بهتَّ كلَّ خصم.
فمن المستقر في الشريعة الغراء، ومن المقرر عند العلماء، ومن المعلوم عند الطلبة النجباء، أن الخلافات الراجعة إلى تباين الأنظار، واختلاف الأفهام والتي تعرف بالاختلاف الاجتهادي، أو الاختلاف السائغ المظنون: لا يمكن رفعها، ولا يستطاع في كل حال دفعها1.
فإن الاختلاف الفكري ينشأ من اختلاف الطبيعة والعقول البشرية، فهو من طبيعة البشر أو من لوازم طبيعتهم كما قال تعالى: “وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ”.
قال الإمام القرطبي -رحمه الله- حاكياً تفسير هذه الآية: “قال الحسن، ومقاتل، وعطاء، ويمان: الإشارة للاختلاف؛ أي:وللاختلاف خلقهم”2، والمعنى: أن الله تعالى خلقنا للاختلاف كونا وقدرا، لا دينا وشرعا.
فـ”كما أن الموت أمر طبيعي للحياة البشرية باعتبار الطبيعة الخاصة والعامة معا.. فكذلك الاختلاف طبيعي لعقول البشر باعتبار الطبيعة الخاصة والعامة، وإليه الإشارة في قوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)”3.
فلا يتصور البتة الاتفاق في كل مسألة مسألة، وكيف يتصور ذلك والخلاف حصل بين الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما ورد في نصوص القرآن وسنة خير الأنام.
قال ابن الوزير اليماني رحمه الله4:
تسل عن الوفاق فربنا قد **** حكى بين الملائكة الخصاما
كذا الخضر المكرم والوجيه المـ **** كلم إذا ألم به لمـامـا
تكدر صفو جمعهما مرارا **** وعجل صاحب السر الصراما
ففارقه الكليم كليم قلب **** وقد ثنى على الخضر الملاما
فدلَّ على اتساع الأمر فيما الـ **** كرام فيه خالفت الكراما
وما سبب الخلاف سوى اختلاف الـ **** علوم هناك بعضا أو تماما
وليعلم أن وقوع ذلك من رحمة الله بهذه الأمة وتوسعة، كما قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله في معرض كلامه عن هذا النوع من الخلاف: “وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الأمة حيث أيدهم باليقين، ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة، فكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة ونصح”5.
ومن حكم حصول هذا الاختلاف كذلك الامتحان والابتلاء، ليُرى كيف سنتعامل معه، هل بموجب شرع رب الأرض والسماء، أو بالجهل والظلم والبغي والأهواء.
قال الخطابي رحمه الله: “لو زال الاختلاف بأن ينص كل شيء باسمه تحليلا وتحريما لارتفع الامتحان6، وعدم الاجتهاد في طلب الحق، ولاستوى الناس في رتبة واحدة، ولبطلت فضيلة العلماء على غيرهم”7.
إذن لا تأمل الاتفاق في سائر الاختلافات الظنية -مع السعي إلى تضييقها قدر الإمكان 8- لأن “الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الأمة قابلة للأنظار، ومجالا للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف.. فلذلك لا يضر هذا الاختلاف”9.
وعليه فلا يجوز بحال أن يجعل ذلك سببا لخرم شيء من أخوة الإيمان، أو أن نجعله من موجبات الهجران، كما لا يحق تسويغ الإنكار بله التضليل، أو دعوى الخروج عن مقتضى الحق والدليل.
فهذا “الضرب..من الاختلاف: لا يزيل الألفة، ولا يوجب الوحشة، ولا يوجب البراءة، ولا يقطع موافقة الإسلام”10، ولذا “كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله تعالى: “وَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً”، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة والأخوة”11.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة”12، ومن تم لا يقبل عند من شم رائحة القواعد والأصول أن تكون “فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ”13 المقبول.
ومن نفيس ما ذكر في هذا المجال ما حكاه الإمام الذهبي رحمه الله عن يونس بن عبد الله الأعلى الصدفي قوله رحمه الله: “ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة”14.
قال الذهبي رحمه الله معلقا: “قلت هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام، وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون”.
قال بعضهم:
واختلاف الرأي لا **** يفسد للود قضية
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه؟ أم يهجر؟ وكذلك من عمل بأحد القولين:
فأجاب: “الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلَّد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين والله أعلم”15.
هذا هو الصواب بلا ارتياب..، لكن العائب لذلك بجهله يبدي صفحة معاداته، ويتخبَّطُّ خَبْط العشواء في محاوراته، وليس هو إلا كالجُعْل باشتمام الورد يموت حَتْف أنفه، وكالخفّاش يتأذى بظهور سنا الضوء لسوء بصره وضعْفه، وليس له سجيَّةٌ نقّادة، ولا رويَّة وقَّادة، والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. لأن هذا النوع من الخلاف وإن كان كذلك إلا أنه يجب تضييقه بكل طريق، وإن كان لا يتصور دفعه في كل حال ومع كل فريق.
2. الجامع لأحكام القرآن 9/115.
3. أبجد العلوم للعلامة صديق حسن خان رحمه الله 213، وانظر الصواعق المرسلة 2/ 519، والجرح والتعديل للقاسمي رحمه الله 45، وإيثار الحق على الخلق لابن الوزير رحمه الله 197-198، والإنصاف للبطليوسي رحمه الله 27 في آخرين.
4. إيثار الحق على الخلق 199.
5. صون المنطق 169.
6. قال ابن الوزير رحمه الله في معرض الكلام عن حكمة وقوع الاختلاف:” والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب..” إيثار الحق على الخلق 86 .
7. أعلام الحديث 1/218.
8. لأن ما قرر لا يعني الاستسلام للخلاف، لأن هذا الأخير إذا كان سنة كونية، فإن الاعتصام فريضة شرعية.
وعليه فالمناقشة بعلم وعدل عند هذا المقام بلا مفاحشة مستساغ طبعا، ومقبول عرفا، بل قبل ذلك فهو مرغوب فيه شرعا.
9. الاعتصام للشاطبي رحمه الله 2/ 168.
10. قاله السمعاني رحمه الله في قواطع الأدلة 2/308.
11. مجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 24/172.
12. نفسه.
13. الاستقامة لابن تيمية رحمه الله 1/31.
14. سير أعلام النبلاء 10/16.
15. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 2/207.