احتضنت هذه المقالة التحذير من بلاء يتنزه عنه النجباء، لعلمهم بحقيقته وبجلاء، ولمعرفتهم بعواقبه وما يحصل بسببه من اعتداء، فكم اكتوى بناره من الفضلاء، وكم حصل من جرائه من أدواء، إنها الفوضى العلمية والاضطرابات المنهجية، حتى ادعى كل واحد “وصلا بليلاه” تبعا لطائفته وهواه، فما ترى إلا من يصد ويعادي، وفي كل واد يتكلم وينادي، فتفرقت الجموع وهي تظن أنها تذوق في سبيل الله صنوف الأذى، مع أنها تتجرع في الحقيقة كؤوس الردى، كل واحدة منها تظن “أن العلم ما معها، وفرحت وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون، وأكثر ما عندهم كلام وآراء، وخرص والعلم وراء الكلام، كما قال حماد بن زيد قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر.
ففرق هذا الراسخ بين العلم والكلام، فالكتب كثيرة جدا والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة، والعلم بمعزل عن أكثرها”1.
ولا غرابة في حصول هذا الواقع المرير في مثل هذا الزمن الذي فيه “الورع قلَّ بل كاد يُعدَم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرة الشهوات، وكثـُر من يدعي العلم، ويتجاسر على الفتوى فيه”2.
وبدل أن يكون منهجٌ صارت مناهج، وعوض طريق صارت طرائق، والعجيب والغريب ادعاء التدقيق ودعوى السير على منهاج الأسلاف على التحقيق، والأمر لا يعدو أن يكون من الخلط والخبط وعدم الضبط أو التزويق.
فإن “كثيرا من الناس المتأخرين لم يعرفوا حقيقة كلام السلف والأئمة، فمنهم من يعظمهم ويقول إنه متبع لهم مع أنه مخالف لهم من حيث لا يشعر..”3، مع التنبيه عند هذا المقام أنه عند “بعد العهد بكلام السلف، وطول المدة، وانتشار كلام المتأخرين في معاني الحديث والفقه انتشارا كثيرا بما يخالف كلام السلف الأول، يتعين ضبط كلام السلف من الأئمة وجمعه4 وكتابته والرجوع إليه، ليتميز بذلك ما هو مأثور عنهم مما أحدث بعدهم مما هو مخالف لهم” 5.
نعم عم الوباء، وكثر هذا البلاء، وتنوع الانحراف في القالات والأفكار والأعمال والاعتقادات، حين تُكُلِم في الأمور العلمية والطرائق المنهجية دون إحكام ولا أهلية، هذا مع التلاعب بالألقاب العلمية والرتب السنية لأهل العلم فـ”كم من مدَّع للمشيخة وفيه نقص من العلم والإيمان ما لا يعلمه إلا الله تعالى”6، فاللهم لطفك ورحماك.
والمصيبة تعظم عندما يخوض في المنهاج تأصيلا وتنزيلا العوام الدهماء، مع أن الواجب في حقهم معلوم عند العقلاء بله العلماء.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “حق العوام أن يؤمنوا ويسلموا ويشتغلوا بعبادتهم ومعايشهم ويتركوا العلم للعلماء فالعامي لو يزني ويسرق كان خيرا له من أن يتكلم في العلم”7.
بل لا يصلح أن يتكلم في هذه الأبواب خاصة حتى الأنصاف في معرفتها لأن الأمر يخص القواعد والتأصيل التي ينطلق في تحريرها من النقل الصحيح، والتصور الفصيح8، مع التبيين والتفصيل، والحذر من العوائد وكل ما هو دخيل، والرجوع في ذلك إلى تقريرات الأسلاف وإلى ما هو أصيل.
قال بعضهم: “أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان”9.
وأخرج الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في جامع بيان العلم بإسناد صحيح عن مالك رحمه الله قال: “أخبرني رجل دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق”.
وهكذا تتابعت شكاوى أهل العلم والعرفان يرددون معنى كلمة ربيعة رحمه الله كابن الجوزي10، وابن الصلاح11، وابن حمدان12، وابن القيم13 وغيرهم رحمة الله عليهم، كل يبكي على أحوال زمانه ويتحسر من أوضاع العلم وأهله، فكيف لو رأوا زماننا وما نحن فيه؟!
فوضى عريضة، وتناقضات غريبة، واضطرابات شديدة، وجرأة عجيبة!! “فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب من السلامة له إن شاء الله”14.
أما بلغك يا من تتكلم في مسائل المنهاج بل في دقائقه وأنت لا تدرك طرائق الاحتجاج مقولة الحافظ ابن حجر رحمه الله في معرض كلامه عن مسألة حديثية أغرب فيها العلامة الكرماني رحمه الله حيث قال: “إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب؟!”15، فما الذي يقال عنك وقد أتيت بالغرائب وتسلل إليك نَفَس بعض المذاهب؟!
فاعلم يارعاك الله أن الكلام في مسائل المنهاج خاصة مع غياب الميزان، واهتزاز المعيار، ولو كان صاحبه على شيء من العلم، فإن علمه يقوده إلى الشقاق بعد الوفاق، ويحمله على الإجحاف دون إنصاف.
ولذا قيل: “لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون”16.
ورحم الله من قال: “إذا ازدحم الجواب خفي الصواب”، و”اللغط يكون منه الغلط”، و”لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف” 17.
وصدق من قال: “الحَجرُ لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان”18.
واعلم أنه مما أعان على هذه الفوضى المنهجية تكثير الناس لسواد من لا علم عنده، ولا دراية لديه، فيسأل ويتلقى عنه ذلك، ويفعل ويتصرف فيقتدى به في تلك المسالك.
قال الشاطبي رحمه الله: “..السائل لا يصح أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه، لأنه إسناد أمر إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا، بل لا يمكن في الواقع..” 19.
وإذا وقع -وقد وقع- فحينئد فليس بمستغرب: أن يسمع المرء ما لا يستعذب، لا سيما إذا كان ذا منهج حق، يسعى على نشره في كل أفق “إذ دون المكارم مكاره لا يتلقاها إلا العود الباذل، وقبل المعالي عوالٍ لا يغشاها إلاَّ البطل الباسل، ومع المغانم مغارم لا يتحملها إلا الأكارم الأفاضل، وأمام العز الشَّامخ مذاهب لا تُسْلك إلاَّ على جسْر من التَّعب ممدود، وقُدَّام الشرف الباذخ مراتب لا تُنال إلاَّ بمساورة أساود وأسُود”20.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الفوائد لابن القيم رحمه الله 1/103-104.
2. الموافقات للشاطبي رحمه الله 4/146.
3. مجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 12/87.
4. إشارة إلى تتبع جزئياته وفروعه فإن الاستقراء ضروري لضبط قواعد منهاج السلف الصالح فتأمل.
5. شرح علل الترمذي رحمه الله لابن رجب رحمه الله 1/41.
6. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 11/513.
7. الإحياء 3/36.
8. فكم وظفت من نصوص في غير مجالها، وكم خرجت من قواعد في غير براقعها.
9. الفتاوي 5/118.
10. في تعظيم الفتيا 113.
11. في أدب المفتي والمستفتي 80.
12. في صفة الفتوى والمفتي والمستفتي 11.
13. في إعلام الموقعين 6/118.
14. من قالات الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة 41.
15. الفتح لابن حجر رحمه الله 3/584، وقال العلامة أحمد شاكر رحمه الله معلقا على هذه الكلمة في كتابه كلمة الحق ص:76 في حق ابن حجر رحمه الله :”وقد قال هذه الحكمة الصادقة في شأن رجل عالم كبير من طبقة شيوخه وهو محمد بن يوسف الكرماني شارح البخاري، إذ تعرض في شرحه لمسألة من دقائق فن الحديث لم يكن من أهلها على علمه وفضله، فتعرض لما لم يتقن معرفته، والكرماني هو الكرماني، وابن حجر هو ابن حجر”.
16. مداواة النفوس 23.
17. انظرها في جامع بيان العلم 11/148.
18. التعالم للشيخ بكر رحمه الله 10.
19. الموافقات 4/192.
20. انظر غاية الأماني لأبي المعالي 2/264.