ضعف النظر فيما فهمه الدكتور سعد الدين العثماني من كلام الإمام القرافي -الحلقة الثالثة- رشيد مومن الإدريسي

“كل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة
لا يجوز لأحد أنْ يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام” (القرافي)

مر معنا في الحلقة الأولى تقرير أن التصرف بالإمامة شرعا ودينا جزء من الرسالة وإنما يتميز عنها بالتنفيذ للحكم الشرعي دون قضاء ولا إبرام ولا إمضاء ولا يشوش على هذا كلام الإمام القرافي رحمه الله في فروقه حول الموضوع، ولا كلامه في الإحكام(1) عند قوله: “وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة.. وهذا (أي التصرف بالإمامة) ليس داخلا في مفهوم الفتيا ولا الحكم ولا الرسالة ولا النبوة..” (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام 93).

لأن قصد القرافي رحمه الله كما بيناه -على خلاف ما فهم الدكتور العثماني- إنما مراده أن التصرف بالإمامة لا يدخل في الرسالة على أنه تنفيذ بلا قضاء ولا إبرام، ولكن في الوقت نفسه هو منها باعتبار مقامها ومن جهة كونها تبليغا عاما مجردا فتأمل بدقة فإن “الرسالة هي أمر الله تعالى له عليه الصلاة والسلام بذلك التبليغ، فهو صلى الله عليه وسلم ينقل عن الحق للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى, فهو في هذا المقام مبلغ وناقل عن الله تعالى” (الإحكام للقرافي رحمه الله 93).
وعليه فليس التصرف بالإمامة أمرا مستقلا عن الرسالة ولذا فيُلزم شرعا من هو في مقام الإمامة بسياسته عليه الصلاة والسلام وقواعدها وأصولها كما قرره الإمام القرافي المالكي رحمه الله نفسه بكلام جلي في السياق نفسه حيث قال: “فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم، وتقرير أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش.. ونحو ذلك فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان شرعا مقررا لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}” الإحكام 96.
فانظر يارعاك الله في قوله: “لأنه عليه الصلاة والسلام إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان شرعا مقررا لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، فتقرر أن مقام الإمامة مقام ديني شرعي لا مقام دنيوي، كما ذهب إليه الدكتور العثماني!
نعم استند الدكتور سعد الدين فيما ذهب إليه من أن الإمامة مقام دنيوي على كلام للإمام القرافي رحمه الله، يقول العثماني: “..مقام رئاسة الدولة (أو الإمامة) إذن مقام دنيوي، يسمي شهاب الدين القرافي ما يصدر من سياسات وإجراءات وقرارات تصرفات بالإمامة، وتكون فيما يقع فيه التنازع لمصالح الدنيا احترازا من مسائل الاجتهاد في العبادات ونحوها فإن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل لمصالح الآخرة فلا جرم لا يدخلها حكم الحاكم أصلا”.
ثم قرر بعد أن “التصرف بالإمامة (أو التصرف السياسي) فهو ملزم. ومن هنا ورد القول: إن الحكم إلزام، والفتيا إخبار”!!
وهذا طرح فاسد، ذلك لأن الإمام القرافي رحمه الله في نصه الذي استند إليه الدكتور العثماني، وكذا قول أهل العلم: “أن الحكم إلزام والفتيا إخبار” في مجال آخر لا علاقة له بالإمامة، وإنما يذكر في معرض تقرير الفرق بين القضاء والإفتاء في حقيقتهما لا بين الإمامة والإفتاء، وهذا الغلط الفادح الذي وقع فيه الدكتور العثماني من جراء مطابقته بين مصطلح الإمامة ومصطلح الحاكم مع أن هذا الأخير في سياق التنصيص على أنه إلزام مقابل الفتيا التي هي إخبار المراد به: القاضي. (انظر الفروق 4/48 ، والإحكام 20- 29 كلاهما للإمام القرافي رحمه الله، وكذا كتاب الفتيا ومناهج الإفتاء لمحمد سليمان الأشقر ص 15 فما بعدها).
ونخشى أن يكون ما ذهب إليه الدكتور العثماني راجع إلى ثأثره بما يعرض له دعاة التجديد بل التبديد من جعل السنة على قسمين تشريعية وغير تشريعية تحت الحديث على منهجية فهم النصوص الحديثية -زعموا-، دون ضبط للمقصود ولا تحديد للمراد، بعيدا عن المصطلحات المجملة، والألفاظ الملتبسة، والعبارات الموهمة.
وصفوة الكلام في فهم قاعدة القرافي رحمه الله التي تخص تصرف النبي عليه الصلاة والسلام بمقتضى أنه هو الإمام أن ذلك تشريع لأمته يخص فقط من كان في مقامه إماما وخليفة.
يقول الإمام القرافي رحمه الله: “وكل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أنْ يقدم عليه إلا بإذن الإمام إقتداء به عليه السلام ” الفروق 1/205.
وهذا هو معنى كونها “سياسة جزئية” على حد تعبير الإمام ابن القيم رحمه الله، فهي منوطة بالإمام أو من ينيبه فقط(2) بعد تحقيق مناطها وتحديد علتها(3) وفق ما جاء في الكتاب والسنة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض الكلام عن ذلك: “والمقصود أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة، تختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة. ولكل عذر وأجر ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين، وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة(4) وأضعافها هي تأويل القرآن والسنة(5)” (الطرق الحكمية 24).
ولا تشوش عليك كلمة المصلحة ذلك لأن “تصرفات الإمام منوطة بمصلحة الرعية” كما نسب ذلك الإمام السيوطي إلى الإمام الشافعي رحمهما الله في الأشباه والنظائر21.
إلا أن هذه المصلحة منضبطة بحكم الكتاب والسنة لا بمجرد الآراء والظنون، فأينما يكون الشرع فتم المصلحة لا العكس، فتنبه. وعليه فتقدير المصلحة المتحققة لا الموهومة من عمل من لهم أهلية النظر في الأدلة الشرعية(6).
قال الشيخ عمر الفاسي رحمه الله في رسلته الوقف: “وأنى للمقلد أن يدعي غلبة الظن أن هذه المصلحة فيها تحصيل مقصود الشارع، وأنها لم يرد في الشرع ما يعارضها، ولا ما يشهد بإلغائها، مع أنه لا بحث له في الأدلة، ولا نظر له فيها؟! وهل هذا إلا اجتراء على الدين، وإقدام على حكم شرعي بغير يقين” (نقلا عن رسائل الإصلاح للخضر حسين رحمه الله 2/154).
إذن فتصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة روعي فيها تحقق المصلحة الشرعية مما يستوجب على من بعده من الأئمة أن يتصرف تصرفه عليه الصلاة والسلام إقتداء به إذا تحققت المصلحة نفسها أو كانت من جنسها.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :”النبي عليه الصلاة والسلام كان هو الإمام والحاكم والمفتي وهو الرسول، فقد يقول الحكم بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة.. وقد يقول بمنصب الفتوى.. وقد يقوله بمنصب الإمامة فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان وعلى تلك الحال فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي عليه الصلاة والسلام زمانا ومكانا وحالا” زاد المعاد 3/428.
…………………………………..
1. فكلامه في الظاهر رحمه الله فيه نوع غموض ولذا علق ابن الشاط المالكي رحمه الله على كلامه في الفروق وقد مر فاستحضره فهو خلاصة المسألة.
2. أي: ليست عامة لعموم الناس إلى يوم القيامة.
3. ولذا اشترط في الإمام أن ينال رتبة الاجتهاد في علوم الشرع باتفاق كما حكاه الشاطبي المالكي في الاعتصام 2/126، وهذا الاتفاق لا يضره وجود المخالف، لأن من خالف فقد اشترط الاجتهاد فيمن يستفتيه الإمام كما في الملل للشهرستاني رحمه الله 1/160، فعاد الأمر إلى اشتراط الاجتهاد سواء في الإمام نفسه أو فيمن يرجع إليه الإمام.
4. أي: السلف الصالح كما هو واضح من السياق فانظره.
5. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “وبالجملة فقد جاءهم رسول الله بخير الدنيا والآخرة بحذافيره ولم يجعل الله بهم حاجة إلى أحد سواه ولهذا ختم الله به ديوان النبوة فلم يجعل بعده رسولا لاستغناء الأمة به عمن سواه فكيف يظن أن شريعته الكاملة المكملة محتاجة إلى سياسة خارجة عنها؟ أو إلى حقيقة خارجة عنها؟ أو إلى قياس خارج عنها؟ أو إلى معقول خارج عنها؟ فمن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك” بدائع الفوائد 3/155.
6. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما: أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة كما قال تعالى في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} مجموع الفتاوي (11/344).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *