البحث الدلالي رهين بفهم السبل المؤدية لضبط معاني الألفاظ الشرعية حالة إفرادها أو تركيبها، ولذلك حظي موضوع الدلالة باهتمام كبير بين المشتغلين والباحثين، وهو أمر واضح في منهجية الاستدلال عند أهل السنة والحديث للمتتبع له، فإن الدارس في المجال اللغوي -خاصة- لا يقصد الألفاظ لذاتها بل غايته الوقوف على معانيها ومدى ارتباطها بمراد قائلها، مما يدل على أهمية المعاني على المباني، وأن دلالات الألفاظ تابعة لقصد قائلها وإرادته.
قال الآمدي رحمه الله: “دلالات الألفاظ ليست لذواتها بل هي تابعة لقصد المتكلم وإرادته”1.
ومفهوم الدلالة لغة يقرر فيه ابن فارس رحمه الله أن لأصل الدال واللام معنيين:” أحدهما: إبانة الشيء بأمارة تتعلمها، والآخر: اضطراب في الشيء”2 ، والمعنى الأول هو المشهور في تداول أهل اللسان.
أما اصطلاحا: ففي مفهومها العام عند أهل الأصول والعربية هي أن: “يكون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر”3.
وليعلم أن المراد من الكلام يعرف بالألفاظ الدالة عليه، وهو يعرف بطرق عدة منها4:
1- التصريح بإرادة المعنى المطلوب.
2- أن يستعمل اللفظ الذي له معنى واضح بوضعه، مع تخلية الكلام عن أي قرينة تصرفه عن هذا المعنى.
3- أن يحتف الكلام بالقرائن الدالة على المراد.
وهذا الأخير يدلنا على اعتبار الدلالة الحملية (وهي: التي يُحْمَل عليها الكلام فيقال إن الكلام إذا أفرد كان له معنى وإذا حمل بعضه على بعض كان له معنى آخر فينظر في الكلام وعلى ما يحمل عليه بسباقه وبلحاقه، كما هو مقرر في الأصول) لمعرفة مراد ظاهر الألفاظ والكلام -عموما-.
مع التنبيه أن المراد بالظاهر في هذا الباب هو ما يتبادر إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام فاللفظة الواحدة يكون لها معنى في سياق وآخر في سياق آخر5.
وهذا المعنى للظاهر يخالف معنى الظاهر الذي عند الأصوليين وهو ما يكون في مقابل النص6.
بل الظاهر هنا يكون تارة نصا وتارة ظاهرا -على اصطلاح الأصوليين كما سيأتي إيضاحه- وهذا الظاهر يجب إثباته فهو مدلول الكلام وبه يظهر مراد المتكلم، ونفيه يكون تكذيبا للمتكلم ونفيا لمراده.
وإن كانت بعض الألفاظ تحتمل أكثر من معنى عند الإطلاق مع تساويها في الأصل، فإنه عند استعمالها في سياق مفيد، لا بد من قطع الاحتمالات وإبقاء واحد منها فقط7.
فالسياق -إذن- يرشد إلى بيان المعنى المراد من اللفظ كلفظ العين مثلا يراد به تارة الذهب، وتارة الجاسوس، وتارة الماء، وكل واحد من هذه المعاني إنما يفهم من جهة السياق لا من جهة أخرى فإن “كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار المساق في دلالة الصيغ”8.
قال ابن القيم رحمه الله: “السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته فانظر إلى قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير”9.
وعليه “يجب تقييد اللفظ بملحقاته من وصف أو شرط أو استثناء أو غيرها.
وهذا الأصل واضح معلوم من لغة العرب وغيرها ومن العرف بين الناس، لأنه لو لم يعتبر ما قيِّد به الكلام لفسدت المخاطبات وتغيرت الأحكام وانحل النظام وهذا مطرد في كلام الله وكلام رسوله وكلام جميع الناطقين، فكما أننا نستفيد من كلام الله وكلام رسوله، ونعتبر ما فيها من القيود المخصصة لإطلاقات الكلام، فكذلك نعتبر ذلك في كلام الناس ونحكم عليهم بما نطقوا به من إطلاق وعموم ومن قيود وتخصيصات…”10.
ومن المهم معرفته في هذا المقام أن كثيرا ما يختلف الناس في بعض الحقائق والمعاني الشرعية، فتشتبك الآراء، وتختلف الفهوم، وتتباين مآخذ البحث العلمي، ولذا كان من المعالم في منهجية الاستدلال لضبط المعاني وحقائق الألفاظ إضافة إلى تَقَدم ما سبق ذكره: الاعتناء بالتعريفات والحدود بعد تحقيقها، للرجوع إليها عند الاختلاف، وليتوصل بها بعد ذلك إلى التصور الصحيح، والمعنى الفصيح وضرورة اعتبار هذا لقيامه على التتبع والاستقراء فتأمل.
قال بعضهم:
الحد والرسم معروفان **** حقائق الأشياء في الأذهان
والحد لغة: المنع، ومنه حدود الدار، لمنعها الخارج من الدخول والداخل من الخارج 11.
أما في الاصطلاح فقد عُرِّف بتعاريف كثيرة منها:
قول القاضي ابن سهلان: “هو القول الدَّالُ على ماهية الشيء”12.
وعرفه البَهَارِيُّ -رحمه الله- بقوله: “مُعَرِّفُ الشيء ما يحمل عليه تصويرا، تحصيلا أو تفسيرا”13.
وفي ذلك قال الغَزِّيُ -رحمه الله-14:
مُعَرِّفُ ما قيل للتصوير **** إما لتحصيل أو التفسير
وجماع ذلك أن نقول أن الحد هو “الوصف المحيط بموصوفه المميز له عن غيره”.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: “إن الحد هو الفصل والتمييز بين المحدود وغيره”15.
هذا مع العلم أن شرط الحد أن يكون جامعا لجميع أفراد وأوصاف المحدود، وأن يكون مانعا من دخول غيرها فيه.
قال الآمدي -رحمه الله-: “وشرط الحد أن يكون جامعا مانعا”16.
ولقد اعتنى العلماء -رحمهم الله- بتحقيق الحدود والتعريفات، فألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة منها:
1- “الحدود” لجابر بن حيان -رحمه الله- (المتوفى سنة 200هـ).
2- “الحدود في الأصول” لسليمان بن خلف الباجي المالكي (المتوفى سنة 474هـ).
3- “الحدود” لابن عرفة المالكي (المتوفى سنة 803هـ).
4- “الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة” لزكرياء الأنصاري (المتوفى سنة 926هـ).
وغيرها كثير، مما يدل على أهمية تحقيق الحدود والتعريفات ليُرْجع إليها- كما قلنا سلفا- عند الاختلاف والتباين.
قال القرافي -رحمه الله-: “إذا اختلفتم في الحقائق فحكموا الحدود”17.
ومن أجله كان “من أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي، فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود حتى لا يُدْخِل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها…”18.
قال الجويني -رحمه الله-: “حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه وبالمواد التي منها يستمد ذلك الفن وبحقيقته وفنه وحده إن أمكنت عبارة سديدة على صناعة الحد، وإن عسر فعليه أن يحاول الدَّرْكَ بمسلك التقاسيم”19.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله-: “اعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة، عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين، ومع انتفاء ذلك وحصول التصوير التام لهما، لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة”20.
ومع أهمية ما ذكرناه إلا أن كثيرا من هذه التعريفات فيها قصور وضعف مما لا يوجب الرجوع إليها عند الاختلاف والتباين ولذلك يجب الاحتراز من هذا النوع من الحدود لكي لا يقوى الاشتباه بعد حصوله، ولا اللبس بعد وقوعه، فإن القصد من الحد الإيضاح والبيان للمحدود.
فالحدود المحترز منها هي التي حددت بأمور قاصرة منها21:
– المساوي في الجلاء، نحو: الأب من له الابن.
– والمساوي في الخفاء: كتعريف الزرافة بحيوان يشبه جلده جلد النمر لمن لا يعرف النمر.
– والمتضادان، نحو: السواد ضد البياض.
– وكما يحترز من الحد الذي حد بما يتوقف معرفته على معرفة المحدود، لأن معرفة الحد متقدم على معرفة المحدود.
مثل تعريف المتساويين بالشيئين غير المتفاضلين، ومن الحد الذي ورد بلفظ غريب للمخاطب، كقولنا: النار جوهر يشبه النفس، ونحو ذلك مما لا يكون معروفا عند المخاطب.
– كما يحترز من الحدود التي فيها اشتباه لإجمالها أو نحو ذلك أو تكرار، لأنها توقع في اللبس والإيهام، ولا يقال: أن التكرار من باب التأكيد لأننا نقول كما قرر العلماء: “التأكيد يكون عند الخفاء لا عند الوضوح”، مع أن الأصل هو: “التأسيس لا التأكيد” فتنبه.
وعند وقوع الاختلاف في اختيار الحد والتعريف المناسب يتم الترجيح فيما بينها كما يقع الترجيح بين الأدلة.
ومن معالم الترجيح ما يأتي22:
1- يُرجح الحد الذي ألفاظه أعرف وأظهر على الحد الذي ليس كذلك.
2- يُرجح أحدهما على الآخر لكونه أعرف منه وأظهر كقولنا: التيمم هو: التطهر بالتراب (فهذا حكم شرعي) وقولنا التيمم هو مسح الوجه واليدين (وهو حكم حسي) وهذا الأخير أعرف وأظهر.
3- يرجح الحد الأعم على الآخر الأخص لكثرة الفائدة.
4- يرجح الحد الموافق للسمع على غيره الذي لا يوافقه، مثاله قولنا: الخمر هو العصير من العنب، وقولنا الخمر: ما أسكر فهذا الأخير موافق للسمع بخلاف الأول.
5- يرجح الحد الموافق للغة على الذي ليس كذلك مثاله، قولنا: الخمر ما أسكر، فهو مقدم على قولنا الخمر عصير من العنب لأن الأول موافق للغة بخلاف الثاني، فإن الخمر من تخمير الشيء أي تغطيته.
……………………………………
1. الإحكام 1/12، وانظر الإبهاج للسبكي رحمه الله 1/208.
2. معجم مقاييس اللغة 2/259.
3. كشاف اصطلاحات الفنون 2/284.
4. انظر شرح الطحاوية 158، والصواعق المرسلة 1/202.
5. انظر القواعد المثلى لابن عثيمين رحمه الله 36.
6. انظر الحدود للباجي رحمه الله 42-43.
7. انظر بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله 4/204-205.
8. الموافقات 3/153.
9. بدائع الفوائد 4/153.
10. القواعد والأصول الجامعة للسعدي رحمه الله 62-63.
11. يُنظر اللسان 4/115، والمصباح المنير 1/135.
12. البصائر النصيرية 72.
13. سلم العلوم 15/أ.
14. نظم الشمسية 8.
15. الفتاوي 9/49.
16. الإحكام للآمدي رحمه الله 3/30.
17. الفروق 4/200.
18. الفوائد لابن القيم رحمه الله 133.
19. البرهان في أصول الفقه 1/77.
20. منهاج التأسيس 13.
21. انظر إجابة السائل شرح بغية الآمل 1/440-441.
22. نفسه.