التقعيد والتأصيل.. “إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع” رشيد مومن الإدريسي

كثر الكلام في هذا الحين عن الأمور المنهجية والعلمية، دون علم ولا تأصيل ولا قواعد محكمة مرضية، مع أنه “من حق البحث والنظر الإضراب عن الكلام في فروع لم تحكم أصولها، والتماس ثمرة لم تغرس شجرها، وطلب نتيجة لم تعرف مقدماتها”1.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به، فإن البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه.. ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان، واعتلى عليه، وإذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت، وإذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد.
فالعارف همته تصحيح الأساس وإحكامه، والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط”2.
إذن الواجب الكلام بالتقعيد والتأصيل، لا بالطرح الخالي عن الحجة والدليل، مع التصور والفهم السديد والتفصيل3، فبهذا ورد التوصيف لشرعنا الأصيل فهو “مضبوط الأصول، محروس القواعد، لا خلل فيه ولا دخل”4 سالم من القول العليل.
ولذا نقول: أن المرء حين لا يملك منهجا على وفق تقعيدات الأسلاف والسنة والكتاب، فهذا يعني أن سبيله إلى الفهم سيكون التجربة أي: التعلم من خلال الخطأ والصواب، فتبنى فروع من غير أصول، وجزئيات من غير تأصيلات، فيكثر اللغط الناتج عن الغلط، فـ”العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع”5.
قال الأصمعي رحمه الله: “سمعت أعرابيا يقول: إذا ثبتت الأصول في القلوب، نطقت الألسن بالفروع، والله يعلم أن قلبي لك شاكرا، ولساني لك ذاكرا، وهيهات أن يظهر الود المستقيم من القلب السقيم”6.
فاغتنم القواعد الأصولا فمن تفته يحرم الوصولا
فالشأن إذن كل الشأن في تحديد الأصول والقواعد التي تبنى عليها الفروع والمسائل حتى ننطلق منها، ونصدر عنها عند كل نزاع، ويرجع إليها صاحب كل ابتداع.
وجماع ذلك: النصوص الشرعية لا الآراء ومجرد التجارب والمعقولات الرَّديَّة، فـ”الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل”7 وما ذاك إلا لأن العلم النافع المليح فيما جاء في الكتاب والأثر الصحيح، وحقيقة العلم: “فهم أصول العلم” 8.
وهذا ما درج عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن سلك سبيلهم حيث “لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه، نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم، وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة”9.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في حق أهل السنة: “لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول، فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وجنتهم التي إليها يرجعون “10.
وورد التنبيه على هذا الأصل والتذكير حتى لا نؤصل أصولا فاسدة، وقواعد كاسدة ونهرول في غير المسعى ونحن نظن أننا نحسن صنعا، فنشابه بذلك أهل الزيغ والابتداع، فـ “أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم فهم لم يثبتوا الحق، بل أصلوا أصولا تناقض الحق”11.
فالتأصيل التأصيل على وفق الحجة والدليل كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: “إنما الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه”12.
ومن عظيم ما ينبغي أن يلتفت إليه عند هذا المقام صحة الفهم للقواعد الأثرية والأصول السنية، وضبط مجالاتها وتصور مراميها، فالفهم العليل سبب لجهل الأصل الأصيل “ومن جهل الأصل لم يصب الفرع أبدا”13 فينتج عن ذلك التصرفات الضائعة، والعصبية القاتلة14، والأحكام الجائرة.
فاحرص على فهمك للقواعد جامعة المسائل الشوارد
فترتقي في العلم خير مرتقى وتقتفي سبل الذي قد وفقا
ومن المهم معرفته كذلك حتى لا نقيم ضوابط باطلة وأصولا عاطلة العمل على التتبع والاستقراء لتقعيد القواعد الصائبة، ورحمة الله على الإمام ابن القيم لما قال: “أما أن نقعد قاعدة، ونقول: هذا هو الأصل، ثم نرد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة فلعمر الله لهدم ألف قاعدة لم يؤصلها الله ورسوله أفرض علينا من رد حديث واحد”15.
ومن نفيس تحريرات الإمام الألباني رحمه الله عند هذا الصدد قوله رحمه الله مؤصلا: “الآثار السلفية إذا لم تكن متضافرة متواترة، فلا ينبغي أن يؤخذ عن فرد من أفرادها منهج.
هذا المنهج خلاف ما هو معلوم عن السلف –أنفسهم-: أن المسلم لا يخرج من دائرة الإسلام لمجرد معصية أو بدعة أو ذنب يرتكبه.
فإذا وجدنا ما يخالف هذه القاعدة16 لجأنا إلى تأويلها، من أن هذا من باب التحذير والتأنيب، وليس من باب الاعتقاد”17.
هذه مقالتي مع قصر الباع، والحال على عجره وبجره لعلها تكون سبيلا لشحذ الهمم إلى ضبط القواعد والأصول في العلوم والفنون وخاصة المسائل المنهجية التي حاد الكثير من الناس فيها عن الوسط إلى جانب التفريط أو الشطط، فالغلو يقابله الخلو، والتمييع18 يقابله التضييع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. من قالات أبي القاسم عبيد الله انظر جامع بيان العلم 1/785.
2. الفوائد 275.
3. إلا أن الأمر مع العامة على خلاف ذلك كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والواجب أمر العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله” الفتاوي 12/237، مع التنبه أنه عند ورود الشبهة على العامة يتعين آنذاك التفصيل بالقدر الذي تندفع به عنهم فتأمل.
4. كما قال ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر 146.
5. مجموع الفتاوي 4/53.
6. جامع بيان العلم 320.
7. مجموع الفتاوي 3/140.
8. صيد الخاطر 277.
9. الفتاوي لابن تيمية 13/63.
10. شفاء العليل 25.
11 مجموع الفتاوي 16/440.
12. رواه الإمام أحمد وغيره وهو في الصحيحة برقم: 1734.
13. كما قال ابن عبد البر في جامعه 2/1140.
14. قال ابن تيمية رحمه الله: “فمن تعصب لأهل بلدته أو مذهبه أو طريقته أو قرابته أو لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام” الفتاوي 28/422.
15. إعلام الموقعين 2/250.
16. أي: من الآثار المتضمنة نحو ذلك بعد ثبوتها على مقتضى الصنعة الحديثية.
17. قالها الشيخ الألباني رحمه الله في شريط: (البدعة والمبتدعون) الوجه الأول، وانظر رسالة “منهج السلف الصالح في ترجيح المصالح وتطويح المفاسد والقبائح..” للشيخ علي الحلبي 64، ورسالة” قاعدة مهمة في فهم كلام الأئمة” لعبد المنعم سليم 18-19.
18. مع الحذر عند هذه اللفظة أن البعض صار يطلقها على إخوانه من أهل السنة لسلوكهم في الأمور المنهجية خاصة مسلك العلم والعدل والإنصاف والله المستعان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *