الغلو يقابله الخلو.. “من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل” رشيد مومن الإدريسي

ليس في الطبع السليم ما يقتضي التعصب1 لهذا العالم دون هذا العالم، وإنما يأتي ذلك غالبا من هوى النفس فيكون حينئذ قد جبل المرء على خلق ذميم، ولذلك ترى المتعصب لا يرجع عن قول من تعصب له2، ولو تبين له خطأ من قلده، بل لا يخالف قوله ولو جاء النص والدليل بخلافه، مع تبرير ذلك بشتى أنواع المبررات والمسوغات! “وهكذا شأن جميع أرباب المقالات والمذاهب، يرى أحدهم في كلام متبوعه ومن يقلده ما هو باطل، وهو يتوقف في رد ذلك لاعتقاده أن إمامه وشيخه أكمل منه علما، وأوفر عقلا، هذا مع علمه وعلم العقلاء أن متبوعه وشيخه ليس بمعصوم من الخطأ”3.

وعليه فما ينبغي لأحد أن يحمله تحننه لشخص أن يتعصب لمقاله مع ظهور الدليل عل خلافه، “فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على الأدلة الشرعية”4، لكن الغلو الذي يقابله الخلو يعمي البصائر ويجعل المرء من جملة الأصاغر، فوطن نفسك يا رعاك الله على الإنصاف وعدم التعصب الحامل على الغلو والإجحاف، المبعد عن الوفاق الموقع في الافتراق، فـ”ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليه، غير النبي عليه الصلاة والسلام، ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله، وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام، أو تلك النسبة ويعادون”5.
وليعلم أنه من مساوئ الغلو في المشايخ: التلبس بمنهج التمييع الذي يقابله التضييع، فلا تظهر للقضايا العلمية والمسائل الشرعية حقيقة، هذا مع التنقص من أهل الحق المخالفين للشيخ المتعصب له، وبخس فضلهم، والتلفظ بعبارات سيئة طعنا فيهم بغير حق تنكبا للطريق السديد وتعلقا بما يأنف منه اللبيب الرشيد.
قال معاذ رضي الله عنه: “أحذركم زيغة الحكيم6 فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق”7.
فالحذر الحذر من الغلو في الشيوخ فإن “من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل”8، فـ”التعنت والغلو في الأمور: يجر الإنسان إلى ما لا يقصد! ويجر إليه ما يكره! ، ولهذا جاءت السنة بالاعتدال في جميع الأمور”9.
فاعلم يا هذا أن من أهم ما يحصل لك أن تكون منصفا متجردا غير متعصب لشيخك وعالمك، حيث تجعل رأيه واجتهاده حجة عليك وعلى غيرك، فإنه وإن فضلك بنوع من العلم وفاق عليك بمدرك من الفهم فهو لم يخرج بذلك عن كونه محكوما عليه متعبدا بما أنت متعبد به، فاحذر أن تبتلى بآفة الغلو والتعصب للأفاضل مقابل الحق والدلائل فإن الله تعالى “قد يوقع بعض المخلصين في شيء من الخطأ، ابتلاء لغيره، أيتبعون الحق ويدعون قوله؟َ أم يغترون بفضله وجلالته؟ وهو معذور، بل مأجور لاجتهاده وقصده الخير، وعدم تقصيره.
ولكن من اتبعه مغترا بعظمته بدون التفات إلى الحجج الحقيقية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فلا يكون معذورا، بل هو على خطر عظيم”10.
ورحم الله العز بن عبد السلام لما قال في حق هؤلاء: “فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجنيها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره..
فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره”11.
ومن كواشف ذلك أن المتعصبين المغالين في شيوخهم قد أوتوا المراء والمجادلة، والتزيد والمخاصمة، وكما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله أن الرجل إذا كان “ذا قدرة عند الخصومة سواء كانت خصومة في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل، ويخيل للسامع أنه حق ويوهن الحق، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات، وأخبث خصال النفاق” 12.
فالذي يلزمنا أن نفتش أنفسنا، فمن وجد في نفسه شيئا من هذا المرض، فعليه أن يتدارك نفسه، ويقبل على العلاج الناجع، ويكون همه موافقة الحق، لينجو بنفسه من وهدة الغلو، أما إذا تشرب قلبك ذلك ثم تأخذ بقية عمرك في تثبيت ذلك البناء، وهو على شفا جرف هار، وتغر حالك أنك أردت نصرة الحق المبين، وتكابر نفسك أنك ابتغيت وجه رب العالمين، وأنت تعلم من نفسك خلاف ذلك إن أنصفت، فهذه إنما هي الجهالة والمغالطة..
فمن جوامع الحق “أن لا تقلد خطأ فاضل، وإن كان محبوبا واجبا تعظيمه”13.
ودع عنك آراء الرجال وقولهم فقول رسول الله أزكى وأشرح
ففي خضم الخلافات التي تفشت بين بعض الإخوان، بل في صفوف جمع من النخبة والخلان بسبب الغلو في هذا الفاضل أو فلان يلتمس الحق ويعرف “بالاستدلال لا من لا يعرفه إلا بما قاله الرجال ويقلدهم في دينه فيذهبون به من يمين وشمال”14.
ولا يكشف القناع عن كثير من المسائل العلمية والمنهجية التي عرض فيها النزاع إلا بتحقيق الأدلة من غير غلو في أحد ولا مجرد اتباع.
ولا يقبل الباطل ويرضى بالقول العاطل، ويغلو في الأفاضل إلا من سلب الإنصاف، وهاب مخالفة الأصحاب والأحلاف.
“فدع عنك الاحتجاج بالرجال والاعتزاز إلى الآراء والأقوال، وجرد نفسك للحق واغسل قلبك من درن العصبية، فإنك إن فعلت ذلك نظرت إلى الحق من وراء ستر رقيق”15.
وليكن شعارك ومعتقدك الخالص “إيثار الحق على الخلق”، وتنبه أن يلتبس عليك الثبات الذي هو صحة العقد، والثبات الذي هو اللجاج فإنهما “يشتبهان اشتباها لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق. والفرق بينهما: أن اللجاج هو ما كان على الباطل، أو ما فعله الفاعل نظرا لما نشب فيه وقد لاح له فساده، أو لم يلح له صوابه ولا فساده، وهذا مذموم، وضده الإنصاف.
وأما الثبات الذي هو صحة العقد: فإنما يكون على الحق، وما اعتقده المرء حقا مالم يلح له باطله، وهذا ممدوح، وضده الاضطراب..”16.
وأخيرا: لقد أثارت رياح الغلو في الأفاضل والأشياخ من الرمال عاصفة، فهل ستهدأ تلك العاصفة؟!
لقد أمطر السحاب بسب ذلك كذلك من الرذاذ سيولا جارفة، فهل سينقشع السحاب، وتسكن تلك السيول الجارفة؟!
لقد أوْلدت الضَّغائِن حروباً طاحنة، غدت القلوبُ منها واجفة.
فهل ستضعُ الحربُ أوزارها، فتطْمئِنَّ تلك القلوبُ الواجفة؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. قال ابن عابدين رحمه الله في العقود الدرية في تنقيح الفتاوي الحامدية 2/333: “قال فخر الإسلام لما سئل عن التعصب، قال: الصلابة في المذهب واجبة والتعصب لا يجوز، والصلابة أن يعمل بما هو مذهبه ويراه حقا وصوابا والتعصب السفاهة، والجفاء في صاحب المذهب الآخر، وما يرجع إلى نقصه ولا يجوز ذلك”.
2. قال التفتازاني رحمه الله في شرح التلويح 2/91: “التعصب هو عدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جانب”.
3. الصواعق المرسلة لابن القيم رحمه الله 3/836.
4. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 26/202.
5. نفسه 20/164.
6. قال صاحب عون المعبود 12/237: “زيغة الحكيم: أي انحراف العالم عن الحق، والمعنى: أحذركم مما صدر من لسان العلماء من الزيغة والزلة وخلاف الحق، فلا تتبعوه”.
7. عون المعبود.
8. قالها العلامة المعلمي رحمه الله في التنكيل 1/6.
9. العواصم والقواصم لابن الوزير رحمه الله 1/330.
10. رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله للمعلمي رحمه الله 152-153.
11. القواعد الكبرى 2/275.
12. جامع العلوم والحكم 432.
13. الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/180 بتصرف يسير.
14. مجموع رسائل الأمير الصنعاني رحمه الله.
15. القول السديد في أدلة الاجتهاد والتقليد لصديق حسن القنوجي 34.
16. مداواة النفوس لابن حزم رحمه الله 125.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *