الخلط بين مقامين .. “..ليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا..” رشيد مومن الإدريسي

الناظر والمتأمل في منهج أهل السنة والحديث في خصوص الكلام في المنازعات بين الناس وعند الرد على المخالف يجده قائما على مراعاة التفريق بين مقامين اثنين:

“المقام الأول: مداره على النظر في نوع المخالفة، ووجه الخلاف، وبيان معارضة المخالف للأدلة النقلية والعقلية.
أما المقام الثاني: فمداره على الحكم على المخالف بالعذر أو المؤاخذة، سواء أكان الحكم من جهة الأحكام الدنيوية، أم من جهة الأحكام الأخروية”1.
هذا مع التنبيه أن بيان الخطأ والمخالفة هو المقصود أصالة، حيث أن الكلام في مقام الحكم على المخالف فرع عنه فتأمل، إلا أن الكثير ممن خاضوا في هذا الباب دون زمام ولا علم وعدل ولا إحكام وقع منهم الخلط بين المقامين، فبمجرد الوقوف عند المخالفة مع عدم إدراك مرتبتها ومقامها2، يجعلون ذلك موجبا لرمي الواقع فيها بالتبديع أو التفسيق.. على أنه باعتبار ما تلبس به من عوارض أهلية تجعله لا يستحق ذلك الوصف حقيقة عند أهل العلم والنظر الدقيق.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في معرض الكلام على أحوال المعارضين والمستجيبين من أهل الكتاب: “..وتنازع الناس في المقلد منهم أيضا، والكلام في مقامين:
المقام الأول: في بيان خطأ المخالف للحق و ضلاله، وهذا مما يعلم بطرق متعددة عقلية وسمعية، وقد يعرف الخطأ في أقوال كثيرة من أهل القبلة المخالفين للحق، وغير أهل القبلة بأنواع متعددة من الدلائل.
والمقام الثاني: الكلام في كفرهم، واستحقاقهم الوعيد في الآخرة..”3.
إذن فتنبه يا رعاك الله في باب الرد على المخالف إلى هذين المقامين ولا تكن من الغافلين، “وحرف المسألة أن يقال: عند الحكم على الأقوال والأنواع لا بد من التأصيل، وعند الحكم على الأشخاص والأعيان لا بد من التفصيل”4.
ومن دلائل الضعف العلمي في هذه الأبواب عند كثير من المعاصرين أنهم عكفوا دون بصيرة على الكلام في المقام الثاني تبديعا وتفسيقا..، دون الحرص على بيان المخالفة، وتعيين حكمها بالأدلة المرضية والكشف عن حقيقتها ودرجتها بالأنظار العلمية، وهل هي من الزلات المغلظة أو المخففة؛ أم هي تندرج في إطار الخلافات الاجتهادية؛ أم أنها من قبيل النزاعات اللفظية 5..؟
وهذا من الجهل بطرائق الأسلاف عند ردهم على المخالفات والبدع إذا نجم النزاع والخلاف، كما أن الغفلة عن المقام الأول سبب لشيوع البدع، وانطماس معالم السنن، بل نتج عن ذلك أن البعض صار يرد على المخالف لا لمقالته الشنعاء بل لعينه وشخصه فحسب فحصلت المحن والبلاء، ولذا فـ”إن كثيرا ممن سمع ذم الكلام مجملا أو سمع ذم الطائفة مجملا، وهو لا يعرف تفاصيل الأمور، لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا واختلفوا: تجده يذم القول وقائله بعبارة، ويقبله بعبارة أخرى، أي: يقبل العبارات التي ذمها من أشخاص آخرين بحسن الظن بهم، فهو يحكم على الأشخاص لا على العبارات”6.
فالواجب ابتداء بيان خطأ المخالف للحق وضلاله بالأدلة المرعية، وهذا يستوجب الأهلية لأنه من شروط الرد “إحكام النقض لشبهة المخالف، وكشف زيفها، وتصييرها هباء منثورا…، وبالتالي لا يبقى للمخالف ولا للقارئ متعلق يلبس به الحق بالباطل، ويوهن الحق لوهاء الرد وضعفه”7.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “يجب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه؛ بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه؛ ولا وَفَّى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين”8.
ولذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم “ينهون عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجا قويا من علوج الكفار، فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة..”9.
فالبداءة بالمقام الأول في باب الرد على المخالف هو لأهميته فإنه من باب حفظ الشريعة، “فالمرصدون للعلم، عليهم للأمة حفظ الدين وتبليغه، فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين”10.
أما المقام الثاني فيحتاج إلى تحقيق مناط11 واقعه عينا أو طائفة فإن إسقاط حكم الابتداع والفسق عليهما مع تلبسهما بذلك ليس بلازم دائما، لما يعرض من موانع تمنع من المؤاخذة، وهذا ما يسمى عند علماء الأصول بـ”عوارض الأهلية”12 وعليه قامت مذاهب العلماء على التفريق بين النوع والعين 13، فـ”الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه، بل لابد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه”14.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله مقررا ذلك: “وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه؛ وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة؛ وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك: فهذا أولى”15.
ومن الأدلة على صحة ما قلناه واقعة حاطب رضي الله عنه في الصحيحين، حين كتب لكفار قريش عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل للحكم عليه، بل بادره بقوله: “يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟”16.
مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي عند إسقاط الأحكام على الأعيان الظروف والملابسات وحالة المخطئ، وكان يعتبر تحقق الشروط وزوال الموانع، ولذا الإمام البخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث بباب يكشف به عن مانع إسقاط الحكم على حاطب رضي الله عنه حيث قال: “باب ما جاء في المتأولين”17.
إلا أن البعض قد ضل فهمه وزلت قدمه في هذا المقام لعدم تحقيق وتحرير كلام العلماء في ردهم على أهل البدع والأهواء، هل هو في باب الرد على المخالف ببيان خطئه وغلطه، أم هو في باب الحكم عليه بالتبديع والتفسيق؟ أو بمعنى آخر هل هو في مجال بيان قُبح البدعة وشناعتها، أم هو حكم على شخص معين قامت عندهم توفر شروط ذلك وزالت موانعه؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطابا لمعيَّن قد علم حاله 18، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يثبت حكمها في نظيرها”19.
ومن تم فالمقام الثاني عند الرد على المخالف يتوقف هو بدوره على معرفة أصول عامة، وقواعد كلية، وضوابط شرعية، وتفاصيل مرعية، لا يجوز لمن جهلها وأعرض عنها وعن حقائقها أن يخوض في إنزال الأحكام معتمدا على الإطلاق والإجمال فإن هذا من أسباب فساد الأديان، وشتات الأذهان كما قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والآراء كل زمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. أصول نقد المخالف للموصلي 15.
2. فـ “البدع مراكب والذم مراتب” انظر معيار البدعة للجيزاني ص:57 فما بعدها.
3. الجواب الصحيح 2/295
4. أصول نقد المخالف للموصلي 17
5. القول أن الخلاف اللفظي خلاف سائغ ولا يضر -على الإطلاق- تذرعا بقاعدة: “لا مشاحة في الاصطلاح” قول ضعيف، لأن هذه الأخيرة لها قيود وشروط، إضافة إلى أنه من الألفاظ ما قد ورد النهي عنها في الشريعة، ومنها ما هو مبتدع، أو ذريعة إلى معان باطلة أو مقاصد فاسدة؛ فتأمل وبالعلم تجمل.
6. منهاج السنة لابن تيمية رحمه الله 2/474
7. الرد على المخالف للشيخ بكر رحمه الله ضمن كتاب “الردود” له 65
8. مجموع الفتاوي 4/269
9. درء التعارض لابن تيمية رحمه الله 7/173
10. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 6/347
11. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “اتفقوا على تحقيق المناط وهو أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي، فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان” الفتاوي 19/16
12. وهي “أوصاف غير لازمة بالمكلف تطرأ له بعد كمال أهليته فتزيلها أو تنقصها أو تغير بعض الأحكام المتعلقة بها” انظر الإحكام للآمدي رحمه الله 8/152، والمستصفى للغزالي رحمه الله 1/148 في آخرين.
13. قال العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله في خصوص ذلك حاكيا عن شيخ الإسلام: “المقصود أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بالفرق بين النوع والعين” محاسن التأويل 5/133.
14. قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة 1/306
15. الفتاوي 3/179
16. قال الإمام الشافعي رحمه الله عند قصة حاطب رضي الله عنه: “في هذا الحديث..طرح الحكم باعتبار الظنون” الأم 356
17. كما في صحيحه في كتاب: “استتابة المرتدين..”.
18. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: “..فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها..” الفتاوي 6/61.
19. الفتاوي 28/213.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *