من ذا الذي لا يخطئ.. “لو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخّيه لاتباع الحق أهدرناه وبدَّعناه لقلّ من يسلم من الأئمة معنا” رشيد مومن الإدريسي

من الجهل الفاضح عند بعض من يتكلم في أمور المنهاج بلا مسلك واضح عدم التفريق بين الإثم والخطأ كما هو منهج السلف الصالح.

هذا مع أن الخطأ صفة ملازمة لبني آدم إلا من عصمه الله من الزلل والأباطيل، وهي قاعدة مسَلَّمة وبالدليل، وبالغفلة عنها اعتمد على إذاعة كل قول قيل، والتعويل على التهم ومجرد الأقاويل، فـ”كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”1، فإياك والمنهج العليل.
فـ”ليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم، بل ليس من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ليس من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه توبة”2، بل”كيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً”3، “ومن ذا الذي لا يخطئ” 4، ولذا فـ “من يبرئ نفسه من الخطأ فهو مجنون”5.
وعليه قرر أهل العلم عدم تأثيم من أخطأ اجتهادا6 فمن المعلوم أن كثيرا “من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة؛ وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها؛ وإما لرأي رأوه؛ وفي المسألة نصوص لم تبلغهم. وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وفي الصحيح أن الله تعالى قال: “قد فعلت”7.
ويتأسف المرء كل الأسف عند رؤية من شم رائحة العلم والتقعيد يعمد في هذا الباب إلى مطلق التقليد، فيبدع هذا بلا استحياء، ويدعي أن ذاك من أهل الأهواء8 دون ضوابط من حديد.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “لا ينبغي للعاقل أن يقلد الناس في المدح والذم، ولا سيما تقليد من يمدح بهوى، ويذم بهوى، فكم حالَ هذا التقليد بين القلوب وبين الهدى، ولم ينج منه إلا من سبقت له من الله الحسنى”9.
والأقبح في هذا المجال الموافقة فيه إرضاء للمتبوع أو التابع، وصدق من قال: “إرضاء الناس بالمعتقدات وبال في الآخرة” وضلال.
فاعلم يا هذا أن اعتقاد التلازم بين الخطأ والإثم هو مذهب أهل الضلال من المعتزلة ومن وافقهم على دربهم، أما “مذهب أهل السنة والجماعة فلا إثم على من اجتهد وإن أخطأ”10.
قال شيخ الإسلام: “وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين”11.
وفي موضع آخر قال: “أما الذين يقولون بأن المجتهد المخطئ آثم فهم أتباع بشر المريسي وكثير من المعتزلة البغداديين والقدرية؛ لأن الخطأ والإثم عندهم متلازمة”12.
والذي عليه أهل التحقيق والنظر الدقيق فيما له علاقة بما نحن فيه ووثيق أنه “من كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا من كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وجماهير أئمة الإسلام”13.
فالمخطئ المجتهد إذن مأجور غير مأزور عند أهل السنة والحديث، فالعجب ممن يخالفهم في ذلك وهو ينتسب إليهم14 دون السير على طريقهم السير الحثيث حتى قال العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله في أمثال هؤلاء: “والذين ينتسبون إلى الحديث في هذا الزمن تعدوا الجادة، وتكلموا في الأئمة، ووقعوا في جهل وهوى”15.
وفي تأصيل الشاطبي رحمه الله لصفات العالم المتحقق بالعلم والعارف بأصوله على صفات الكمال التي كان عليها السلف الصالح يستدرك على هذا الكمال فيقول: “غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة.. فلا يقدح في كونه عالما، ولا يضر في كونه إماما مقتدى به”16.
فـ”من جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور، مذموما معيبا ممقوتا17، فهو مخطئ ضال مبتدع”18.
وفي سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله عند ترجمة الإمام ابن خزيمة رحمه الله قال: “ولابن خزيمة عظمة في النفوس، وجلالة في القلوب، لعلمه ودينه واتباعه السنة، وكتابُهُ في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة، فليُعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفوا، وفَوّضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده، مع صحة إيمانه، وتوخّيه لاتباع الحق، أهدرناه وبدَّعناه لقلّ من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه”19.
وفي ترجمة قتادة رحمه الله قال:”ثم إن الكبير من أئمة العلم، إذا كثر صوابه، وعُلِم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه، وورعه واتباعه يُغفر له زلَلُهُ، ولا نضلّله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم: ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجوا له التوبة من ذلك”20.
والغريب بعد هذه النقولات أن يكون هذا المنهج الغض محل نقد عند البعض، زاعمين أن مثله يضر أكثر من أن ينفع، ويوقع في المخالفة ويميِّع.
ومن النصوص الجامعة في الباب التي تنم عن فقه دقيق، ونظر عميق ما ذكره العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله حيث قال: “وأما موقفنا من العلماء المؤولين، فنقول: من عُرف منهم بحسن النية، وكان لهم قدم صدق في الدين، واتباع السنة، فهو معذور بتأويله السائغ، ولكن عذره في ذلك لا يمنع من تخطئة طريقته المخالفة لما كان عليه السلف الصالح من إجراء النصوص على ظاهرها، واعتقاد ما دل عليه ذلك الظاهر، من غير تكييف ولا تمثيل، فإنه يجب التفريق بين حكم القول وقائله، والفعل وفاعله، فالقول الخطأ إذا كان صادرًا عن اجتهاد وحسن قصد؛ فلا يُذَم عليه قائله، بل يكون له أجر على اجتهاده، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) متفق عليه، وأما وصفه بالضلال: فإن أريد بالضلال الضلال المطلق، الذي يُذم به الموصوف، ويُمقت عليه؛ فهذا لا يتوجه في مثل هذا المجتهد، الذي عُلم منه حسنُ النية، وكان له قدم صدق في الدين واتباع السنة، وإن أريد بالضلال مخالفة قوله للصواب، من غير إشعار بذم القائل؛ فلا بأس بذلك، لأن مثل هذا ليس ضلالاً مطلقا، لأنه من حيث الوسيلة صواب، حيث بذل جهده في الوصول إلى الحق، لكنه باعتبار النتيجة ضلال، حيث كان خلاف الحق، وبهذا التفصيل يزول الإشكال والتهويل، والله المستعان”21.
فتأمل يا رعاك الله كيف أن أئمتنا لم يشنعوا على المجتهدين عموما إذ وقعوا في خطأ أو زلة، فأين هذا المنهج السامي ممن يبدِّعون ويفسقون من وقع في أي خطأ دون النظر إلى نيته ومقصده، ودون التفريق بين المجتهد الذي يبحث عن الحق وينشده؛ وبين صاحب الهوى القاصد للخطأ والمصر عليه، ومشكلة هؤلاء هو الجهل بمسالك أهل السنة في هذه الأبواب أو ضعف في إحكامها، مع ما تلبس به بعضهم خاصة فيما نتكلم فيه من عدم حفظ اللسان22، وقلة الأدب وسوء التربية وعلل في الجنان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. أخرجه الترمذي وغيره؛ انظر صحيح سنن أبي داود 2/418.
2. من كلام شيخ الإسلام رحمه الله 11/66-67.
3. مدارج السالكين 2/522.
4. الآداب الشرعية لابن مفلح رحمه الله 2/142.
5. نفسه.
6. بشرط الأهلية، مع العلم أن الاجتهاد يتجزأ على الصحيح.
7. كما قال شيخ الإسلام في الفتاوي 19/191.
8. مع التنبيه أنه قد يصف بعضهم بعضا آخر بذلك اجتهادا فيكون مغفورا لهم، يقول ابن تيمية رحمه الله: “..فإن أقواما يقولون ويفعلون أمورا هم مجتهدون فيها، وقد أخطؤوا، فتبلغ أقواما يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب، أو يظنون أنهم لا يُعذَرون بالخطأ، وهم أيضا مجتهدون مخطئون، فيكون هذا مجتهدا مخطأ في فعله، وهذا مجتهدا مخطأ في إنكاره، والكل مغفور لهم، وقد يكون أحدهما مذنبا، كما قد يكونان جميعا مذنبين” الفتاوي 10/546-547.
9. زاد المعاد 3/ 627.
10. الفتاوي 35/69.
11. نفسه 19/123 بتصرف يسير.
12. نفسه 19/ 204، وانظر الإحكام للآمدي رحمه الله 4/24.
13. الفتاوي 23/346، وانظر 13/125 فما بعدها، ومنهاج السنة النبوية 5/87-88، وهذا التأصيل الحق على خلاف من يفرق فيما نحن فيه بين الأصول والفروع!
14. وتنبه إلى هذا القيد الذي يكشف من ينتسب إلى السلف قولا ويخالفهم حالا.
قال العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله: “من المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها، وكثر سوادها، لابد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف والغالي والمتسامح” الجرح والتعديل 12-13.
15. فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله 1/200.
16. الموافقات 2/92-93.
17. وهذا لا يعني أننا لا نبين الصواب من الخطأ وأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر بضابطه وشرطه إلى غير ذلك مما هو معلوم فتأمل وبالعلم تجمل.
18. قاله ابن تيمية رحمه الله في الفتاوي 11/15.
19. 14/374-375.
20. السير 5/271.
21. مجموع فتاوي ورسائل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله 1/120-121.
22. وهذا فيه شَبَه بالخوارج، قال العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله: “وأول من فتح هذا الباب -باب الغلو في إطالة اللسان بالمخالفين- الخوارج، فأتى قادتهم عامتهم من باب التكفير لتستحكم النفرة من غيرهم، وتقوى رابطة عامتهم بهم، ثم سرى هذا الداء إلى غيرهم وأصبحت غلاة كل فرقة تكفر غيرها وتفسقه، أو تبدعه أو تضلله لذلك المعنى نفسه..” الجرح والتعديل 13.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *