بحماس الإقبال على العلم، والشعور بنشوة التعرف على كثير من المسائل، ظهرت فئات من طلبة العلم والمتفقهة، قد اكتسبت قدرا طيبا من المناقب، وتنبهت إلى كثير من المثالب، ولكن لم يقترن طلبها للعلم بتربية على وقار العلم وأدبه ومعرفة المراتب، بل همها تتبع المعايب، والتطلع إلى المثالب، حالها كحال الذباب “الذي لا يقع إلا على العَقِير (الجريح)، ولا يقع على الصحيح”1.
شر الورى من يعيب الناس مشتغلا مثل الذباب يراعي موضع العلل
أي نعم، تولدت عند هذه الفئة قدرات كلامية مصحوبة بجرأة على مجرد الاعتراض2، فأخذ علمهم الذي اكتسبوه طابع الجدلية، وقلة الحياء مع العلماء، والتسرع في الأحكام، والإنكار على أي مخالف، وعند أدنى مخالفة..، إنه التجرد من الأدب عند التعلم على ضعف في هذا الأخير ظاهر فتنبه، مع أن المرء “إذا حقق الأدب أدرك الأرب ونال أعلى الرتب”.
لم ينتصحوا بقول الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين لما قال القول المبين: “لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء أو لتماروا به السفهاء أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو في النار”3، ذلك لأن “التفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدل”4.
ولا يخفى عند أهل النظر أن “أهل الجدل طائفة فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام، ولكن كياستهم ناقصة، أو كانت في الفطرة كاملة لكن في باطنهم خبث وعناد وتعصب وتقليد، فذلك يمنعهم عن إدراك الحق، وتكون هذه الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوا”5.
فتجنب يا رعاك الله جدال اللدد6 وسوء الأدب بدعوى إظهار المنهاج، والحفاظ على السنة بالحجاج فإن حراسة السنة تكون “بالحق والصدق والعدل، لا تحرس بكذب ولا ظلم، فإذا رد الإنسان باطلا بباطل، وقابل بدعة ببدعة، كان مما ذمه السلف والأئمة”7.
إن سوء التعامل الظاهر في هذا الحين مع الأمور المنهجية خاصة تنزيلا وواقعا حتى أدى ذلك إلى سوء الأدب مع الفضلاء والتطاول على العلماء أساسه -مع ضعف النظر والتصور-: الفصام النكد بين الأدب والعلم، فـ”بالأدب تفهم العلم”8، وقيل: “من أراد العلم والفقه بغير أدب، فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله”9.
ولأجله حث السلف الأخيار على الأدب حتى قيل: “من قعد به حسبه، نهض به أدبه”10، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: “أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره”11.
فاحذر أن تبتلى عند التلذذ بغيبة الفقهاء والطلبة النجباء لقلة أدبك بسوء الخاتمة، فهذا القاضي الفقيه الشافعي محمد بن عبد الله الزبيدي رحمه الله مع اشتهار ذكره، وتفننه في علمه، قال عنه الجمال المصري رحمه الله: “إنه شاهده عند وفاته وقد اندلع لسانه واسود، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي رحمهم الله جميعا”12. فاللهم غفرانك.
إن السعيد لمن له من غيره عظة وفي التجارب تحكيم ومعتبر
ورحمة الله على الحافظ أبي العباس الحسن بن سفيان لما قال لمن أثقل عليه: “ما هذا؟ قد احتملتك وأنا ابن تسعين سنة، فاتق الله في المشايخ، فربما استجيبت فيك دعوة”13.
فنحن إذن “إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث”14، فيا هذا “تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم”15، فقد “كان الرجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدب وتعبد قبل ذلك بعشرين سنة”16.
فكثير من الإجحاف والتفرق والاختلاف مع الموافق والمخالف سببه قلة الإنصاف وترك الائتلاف، مما يدل على أنه من الأزمات المريرة التي تحمل على التصرفات الوضيعة فقدان الأخلاق الجميلة، فظهرت العصبية التي أهدرت الأوقات، وتُتُبعت الهفوات مع أن العبرة بغلبة الحسنات، وانكشفت الحمية المقيتة بتتبع الزلات، وفقدت الأناة عندما عرضت الخلافيات، وحصل الظلم والتعدي بل وشن الحملات.. فيا لها من مصائب وبليات، تفشت فينا وانتشرت لأننا لم نتربى على الآداب الرفيعات والمقامات الزكيات.. {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}.
ومن دلائل قلة الأدب: عدم التسليم لأهل الشأن والأكابر “في موضع الاجتهاد والاحتمال، وكذا حيث لم يستوثق المعترض من خطأ الشيخ”17، خاصة في الأمور العظام ومسائل النوازل، التي تحتاج إلى جودة قريحة، وقوة نظر في الدلائل.
وبهذا يفهم قول من قال عند الكلام عن أصول التربية: “ترك الاعتراض على الأكابر محمود، وكثرةُ المِراء يورث الصدود”، ومنه قولة مالك رحمه الله حيث قال: “سلموا للأئمة، ولا تجادلوهم”18، وكما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: “التسليم للفقهاء سلامة في الدين” 19، وعليه فليس القصد ترك الاعتراض بالكلية فتنبه20.
فـ”إن العالم المعلوم بالأمانة والصدق والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع إذا سئل عن نازلة فأجاب، أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها، أو لا تقع من فهم السامع موقعها أن لا يواجه بالاعتراض والنقد.
فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح وأحرى بإدراك البغية إن شاء الله تعالى”21.
وترك الاعتراض محمود على ذي الكبراء عند كل من علا
كان الذي اعترض فاهما أو لم يفهمن عند كل من روى
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد قصة الحديبية: “أن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال، بل عليه التسليم، لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالبا بكثرة التجربة..”22.
وليعلم أن ترك المبادرة إلى الاعتراض على العالم الموثوق المظنون فيه التزام الحق بشرطه المذكور من الصبر المحمود إذ “أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم وحسن الثبات على ذلك أنه ليس بأهل لتلقي العلم.
فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه أدرك به كل أمر سعى إليه”23.
فالله الله في التزام الأدب في جميع محاولاتك ومناولاتك وتصرفاتك وأفعالك، فما أدرك من أدرك إلا بالأدب.
فالقوم بالأدب حقا سادوا به استفاد القوم ما استفادوا
قال الإمام القرافي رحمه الله: “واعلم أن قليل الأدب خير من كثير من العمل، ولذلك هلك إبليس وضاع أكثر عمله بقلة أدبه فنسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة، وقال الرجل الصالح لابنه يا بني اجعل عملك ملحا وأدبك دقيقا، أي: ليكن استكثارك من الأدب أكثر من استكثارك من العمل لكثرة جدواه ونفاسة معناه”24.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. منهاج السنة النبوية لابن تيمية رحمه الله 6/150
2. فإن “الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض” كما قال السراج البلقيني رحمه الله في محاسن الاصطلاح 176
3. انظر صحيح الجامع.
4. فتح الباري 13/264
5. القسطاس المستقيم لأبي حامد الغزالي رحمه الله 90
6. روى البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم”.
قال ابن فارس رحمه الله: “لد اللام والدال أصلان صحيحان: أحدهما يدل على خصام، والآخر يدل على ناحية وجانب.
فالأول اللدد، وهو شدة الخصومة، يقال: رجل ألد وقوم لد قال الله تعالى وتندر به قوما لدا..” معجم مقاييس اللغة 5/203
7. درء التعارض لابن تيمية رحمه الله 7/182
8. كما قال يوسف بن الحسين رحمه الله فيما نقل عنه الخطيب البغدادي رحمه الله في اقتضاء العلم العمل 170
9. كما قال البوشنجي رحمه الله انظر نزهة الفضلاء 2/1006
10. لباب الآداب 228
11. مدارج السالكين 2/391
12. الدرر الكامنة 4/106
13. سير أعلام النبلاء 14/159
14. كما قال مخلد بن الحسين رحمه الله انظر تذكرة السامع والمتكلم 3
15. كما قال الإمام مالك رحمه الله انظر الحلية 6/330
16. من قالات سفيان الثوري رحمه الله انظر الحلية 6/371
17. هذه قيود مهمة لمسألة التسليم للفقهاء، وترك الاعتراض على العلماء، انظر حرمة أهل العلم لمحمد إسماعيل المقدم232، وكذا قواعد في التعامل مع العلماء لعبد الرحمن بن معلا اللويحق 188
18. الميزان للشعراني 1/51
19. الجواهر المضيئة للقرشي 1/166
20. فإن ترك الاعتراض بالكلية لا يكون إلا للمعصوم ومعلوم أن العلماء غير معصومين.
نقل الإمام الذهبي رحمه الله عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله قوله: “من قال لأستاذه: لم ، لا يفلح أبدا”.
ثم قال: “ينبغي للمريد أن لا يقول لأستاذه: لم إذا علمه معصوما لا يجوز عليه الخطأ، أما إذا كان الشيخ غير معصوم وكره قول: لم؟ فإنه لا يفلح أبدا، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}، وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.
بلى هنا مريدون أثقال أنكاد، يعترضون ولا يقتدون ويقولون ولا يعملون فهؤلاء لا يفلحون” سير أعلام النبلاء 17/251.
21. الموافقات 5/400 تحقيق مشهور.
22. فتح الباري 5/352.
23. تيسير الكريم الرحمن 5/68.
24. الفروق 8/499.