حتى لا يسترسل المسلم في خطأ وقع فيه، أو هوى انساق إليه، لا بد له في حياته من وقفات مع نفسه ومع إخوانه، لمراجعة طرائقه، ونقد مسلكه، والنظر في منهجه، والسير -بعدئذ- وفق الحق والهدى، بعيدا عن الباطل والهوى.
ومن أجلّ ما ينبغي أن ينتبه إليه في هذا المقام حتى لا يكون المرء كحال الإمعة العاجز، أو الضعيف الناشز: الحذر من تبني الباطل وتجرعه دون تأمله وتبصره لصدوره من عالمه وشيخه لنبوغه في علمه وتضلعه!
والمدخل إلى هذه البلية حب الشيخ بلا وسطية، فإن هذا الحب الغالي يعمي صاحبه ويصمه ولا يبالي، ومعناه أنه “يعمي العين عن النظر إلى مساوئه، ويصم الأذن عن استماع العدل فيه”1.
ولذلك نصح من رزق التدقيق، واتصف بالتحقيق من ابتلي بهذه المخالفة، وجره حبه وتعصبه لشيخه لقبول قوله المرجوح دون مراجعة، أن يتجرد للصواب ناظرا إلى القول في ذاته لا إلى قائله 2 ولو أغلق عليه الباب!!
قال الدمياني رحمه الله:
انظر إلى القول لا تنظر لقائله *** فإن صادقه يغنيك عن نسبه
الحق يسطع مثل الصبح منبلجا *** ومن يباريه يبدو الوهن في خيبه
والشعر ليس يزيد الحق مرتبة *** وغيره لا يحط الحق عن رتبه
ولذا فالواجب أن “نرجح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل من غير تعصب لمذهب معين، ولا لقول قائل معين، لأننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله”3.
فلا تجعل نفسك ممن يرضى بالمقال المزوق، ويدفع عنه القول المحقق، فالحق المجرد في النقل المصدق، لا في الرأي المنمق، الذي جرا على لسان شيخك ولم يوفق!!
ولا ترمي بفكرك في هذا المستنقع، فهو محل أهل الأهواء والبدع، فقد جرت عادتهم “في سابق الدهر ولاحقه بأنهم يفرحون بصدور الكلمة الواحدة عن عالم من العلماء ويبالغون في إشهارها وإذاعتها فيما بينهم، ويجعلونها حجة لبدعهم، ويضربون بها وجه من أنكر عليهم”4.
يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله في معرض كلامه عن التقليد المذموم: “واعلم أن أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص، فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل”5.
وليعلم أنه من أعظم الأسباب المعينة على عدم الانصياع وراء هذا الضياع: العلم أن ذلك الفعل أو القول أو الاعتقاد الباطل إن كان انتحله من يقتدى به، فالمخالفون إن لم يكونوا أفضل منه فليسوا دونه، ولو كانوا دونه رتبة فلا تغفل أن المرد أصالة إلى الكتاب والسنة.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله عند كلامه عمن حجبت الغشاوة أبصارهم فرموا بالحق المبين اغترارا بأقوال المتبوعين: “ذلك لأن أذهانهم قد تصورت من يقتدون به تصورا عظيما بسبب تقدم العصر، وكثرة الأتباع، وما علموا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم، فإنه لو قيل لهم: إن في التابعين من هو أعظم قدرا من صاحبكم علما وفضلا وجلالة قدر، فإن أبيتم ذلك، فهاأنا أدلكم على من هو أعظم قدرا وأجل خطرا، وأكثر أتباعا وأقدم عصرا، وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم ورسول الله إلينا وإليكم” 6.
وعليه فاجعل همتك في إرادة الحق الفصيح، ووطن نفسك على هذا المسلك المليح ليسهل عليك بتوفيق الله معرفة المعيار الصحيح الذي تميز به بين الحسن والقبيح، لتكون على أصل الفطرة، شرعي الحكم، علمي النظرة.
فالحق يا رعاك الله لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله7 “ومن عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال، فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكا طريق الحق وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بين الناس، فلا تغفل الصحابة وعلو منصبهم”8.
فالحق لا يعرف بالرجال بل عرفوا بالحق في الأقوال
وحتى لا نكون ممن يهرول في غير المسعى، أقول: رأينا كثيرا من الإخوة، بل حتى في صفوف بعض النخبة تركهم الاعتماد في اختياراتهم للأقوال على الحجة والبرهان، وإنما لمجرد أن القائل به العالم فلان! حتى في أمور المنهاج وما يعتقده الجنان9.
قال تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
قال الإمام القرطبي رحمه الله عند تفسيره للآية : “قوله تعالى (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) اللَّبس: الخلط. لبست عليه الأمر ألبسه إذا مزجت بَيِّنه بمشكله وحقه بباطله، قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}، وفي الأمر لبسة أي ليس بواضح، ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط: يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله”10.
وليعلم أن هذا الطرح العلمي المذكور يشمل عموم الأتباع، فلا ينبغي أن يستروح عنده بقول الفقيه “مذهب العامي مذهب مفتيه”، لأن هذه القاعدة يجب أن تفهم على ضوء ما سبق بسطه، تحديدا لمجالها، وإيضاحا لحقيقتها، وقد كشف عن ذلك ابن حجر الهيثمي رحمه الله حيث قال: “وها هنا دسيسة ينبغي التفطن لها وهي أن المجتهد بحق قد يرى رأيا مرجوحا، فهو وإن أثيب عليه قد لا يكون المنتصر لقوله كذلك وهو ما إذا قصد بانتصاره له أنه من أقوال متبوعه، ولو كان من أقوال غيره لم ينتصر له، لأن انتصاره حينئذ مشوب بإرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأن لا ينسب إلى الخطأ، وهذا كله قادح في قصد الانتصار للحق، فافهم ذلك فإنه مهم ويخفى على كثيرين”11.
هذه مقالتي المتواضعة: أُخاطب بها من أراد أنْ يُغطِّيَ ضوء الشمْس بظلِّه، أو يمنعَ بُزوغ الفجْر من محله، أو يدفعَ الهلال عن الظُّهور في مُسْتهلِّه!
أُخاطب بها من أراد أن يُوقف السَّيل قبل أنْ يَمُدّ مدّه، ويزجر البحْر إذا مد عن أن يبلغ حدّه، هيهات له أن يفعل ذلك جهده!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. قاله ثعلب كما في التذكرة في الأحاديث المشتهرة 73.
2. ولا يعني هذا إهمال النظر إلى القائل بإطلاق أو تجاهله فتنبه.
3. قاله العلامة الشنقيطي رحمه الله كما في مقدمة أضواء البيان 1/4
4. أدب الطلب ومنتهى الأرب للشوكاني رحمه الله 43.
5. تلبيس إبليس 77 منتقاه، ويقول العلامة السعدي رحمه الله في فوائد معرفة المقول دون قائله: “من فوائد ذلك: أن الأقوال التي يراد المقابلة بينها، ومعرفة راجحها من مرجوحها أن يقطع الناظر والمناظر النظر عن القائلين، فإنه ربما كان ذكر القائل مغترا عن مخالفته، وتوجب له الهيبة أن يكف عن قول ينافي ما قاله” المناظرات الفقهية 68.
6. فتح القدير 4/552، وقال شيخ الإسلام رحمه الله رادا على من يحتج بفعل بعض المجتهدين في النبيذ والربا: “يقال على سبيل التفصيل: إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين، فقد تركها في زمان هؤلاء معتقدا لكراهتها وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم، ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إلى الله والرسول” الاقتضاء 2/118.
7. هذه المقولة مأثورة عن علي رضي الله عنه انظر فيض القدير 1/17، والإحياء 1/53، وصيد الخاطر 36، وتلبيس إبليس 77- منتقاه، والجامع لأحكام القرءان 1/380، وأقاويل الثقات 222، وليس القصد منها ترك الاستعانة بالعلماء والاستضاءة بفهمهم ، حيث “إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه” كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الاعتصام 548، وعليه فمجال تلكم المقولة عند ذم التعصب المقيت، فتأمل.
8. كما قال الغزالي رحمه الله في الإحياء 1/29.
9. والواو في هذه الجملة للعطف، أي: عطف الخاص (العقيدة) على العام (المنهاج) فتأمل، والقصد منه بيان أهمية الخاص كما هو مقرر، وإيضاح خطورة المداهنة فيه خصوصا، حتى قال ابن عقيل رحمه الله: “وإرضاء الخلق بالمعتقدات وبال في الآخرة” الآداب الشرعية لابن مفلح رحمه الله 1/135.
10. الجامع لأحكام القرآن 1/380.
11. الفتح المبين بشرح الأربعين 595-596 مع حاشية المدابغي، وانظر نقله عنه على وجه الإقرار الصوارم والأسنة للعلامة الشنقيطي رحمه الله 260-261، وانظر نحوه جامع العلوم والحكم 357-358.