الثناء على المخالف.. “إذا كان المقصود بالثناء على مسلم نظنه مبتدعا.. هو الدفاع عنه اتجاه الكفار فهذا واجب وأما إذا كان المقصود بالثناء عليه هو تزيين منهجه.. ففيه تضليل” رشيد مومن الإدريسي

من قواعد العلم والدّين أن المسلم يُحَب ويبغض، ويوالى ويعادى، ويوصل ويهجر، على حسب ما فيه من خير وشر، وسنة وبدعة، مع الأخذ بالدلائل الصحاح، واعتبار تحقق المناط، ومراعاة المفسدة والمصلحة، والضوابط الملاح، وعليه فـ”من لم يكن خارجا عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك فيحمد على حسناته، ويوالى عليها، وينهى عن سيئاته، ويجانب عليه بحسب الإمكان.. كفساق أهل الملة، إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض، بحسب ما فيهم من البر والفجور.. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة1″2.

ومن لوازم ذلك الثناء على المرء فيما وافق فيه شرع رب العالمين، أو لما عنده -أو عليه- من الحق المبين، إذا دعت الحاجة إلى ذلك بلا ظن ولا تخمين “فحمد الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله ورسوله وشرعه من جميع الأصناف، إذ الحمد إنما يكون على الحسنات..
وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة الله ورسوله إلا بمخالفة ذلك.
ومن تكلِّم فيه من العلماء والأمراء وغيرهم، إنما تكلم فيه أهل الإيمان بمخالفته السنة والشريعة”3.
فلا تغفل عن هذا يا رعاك الله فإنه قائم على مقتضى العدل والإنصاف وتجنب الظلم والإجحاف “فلو كان كل من أخطأ -أو غلط- ترك جملة، وأهدرت محاسنه4: لفسدت العلوم والصناعات، وتعطلت معالمهما”5.
والمخالف لذلك متلبس بالخلق الدني، وخارج عن الطبع السوي فإن “من الناس من طبعه طبع خنزير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها.. وهكذا كثير من الناس، يسمع منك -ويرى- من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ، فلا يحفظها ولا ينقلها، ولا تناسبه.. فإذا رأى سقطة، أو كلمة عوراء: وجد بغيته وما يناسبها، فجعلها فاكهته6 ونقله”7.
بل من يتتبع الزلات ولا يبصر السيئات فيه شبه بالنساء كما قرره العلامة ابن عثيمين رحمه الله في قوله: “كل إنسان مهما بلغ من العلم والتقوى، فإنه لا يخلو من زلل، سواء كان سببه الجهل أو الغفلة، أو غير ذلك.. ولا أحد يأخذ الزلات ويغفل عن الحسنات إلا كان شبيها بالنساء8..”9.
فكثيرا ما يكون الثناء على الشخص أو الطائفة نسبيا وليس مطلقا؛ وعليه يُخرج حمد أهل العلم لبعض المخالفين كقول شيخ الإسلام رحمه الله في بعض العلماء من الأشاعرة: “ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين مما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، ولكن لما التبس عليهم هذا الأصل -المأخوذ ابتداء عن المعتزلة- وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل وخيار الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات..”10.
ومثله قول العلامة ابن باز رحمه الله: “القاعدة الشرعية كما نبه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره: أن العالم يمدح بما وافق فيه الكتاب والسنة ويذم على ما خالف فيه الكتاب والسنة، وهذا الذي قاله رحمه الله هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، فالأشاعرة وغيرهم يمدحون على ما قالوه وكتبوه في نصر الحق في أبواب أصول الدين وفي غيرها؛ ويذمون على ما أخطأوا فيه إحقاقا للحق وردا للباطل حتى لا يشتبه الأمر على من قل علمه والله المستعان”11.
وقد يكون المرء صاحب بدعة ثم ينتقل إلى غيرها فيحمد باعتبار أن ما صار إليه أقل شرا مما كان عليه؛ وهذا بدوره ثناء نسبي في مجاله فتنبه، “فقد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة، فينتقل إلى ما هو أقل منها شرا وأقرب إلى الخير، فيكون حمد تلك الطريقة ومدحها لكونها طريقة الخير الممدوحة.. وهكذا النِّحل التي فيها بدعة، قد يكون الرجل رافضيا فيصير زيديا فذلك خير له..”12.
كما أنه قد يثنى على الطائفة المسلمة مع ما هي عليه من المخالفة مقابل الطائفة الكافرة، وفي ذلك جواب للعلامة الألباني رحمه الله عن سؤال نصه: هل يجوز الثناء على أهل البدع، وإن ادعوا خدمة الإسلام، وأنهم يسعون وراء ذلك؟
فقال رحمه الله ونور الله قبره: “الجواب يختلف باختلاف المقام، إذا كان المقصود بالثناء على مسلم نظنه مبتدعا، ولا نقول إنه مبتدع13.. فإذا كان المقصود الثناء عليه هو الدفاع عنه اتجاه الكفار فهذا واجب، وأما إذا كان المقصود بالثناء عليه هو تزيين منهجه ودعوة الناس إليه14، ففيه تضليل، لا يجوز”15.
ومن المهمات في السياق نفسه أنه من كان من المخالفين أقرب إلى الحق والسنة عرفت منزلته، ووجب تقديمه على من كان أبعد عن الصواب وأهله ، ونحمده لأجل ذلك مقابل غيره فـ”من حُكم الشريعة إعطاء كل ذي حق حقه،..وأن من كان منهم (أي: من المخالفين) أقرب إلى الحق والسنة عرفت مرتبته، ووجب تقديمه في ذلك الأمر على من كان أبعد عن الحق والسنة منه،…قال تعالى في حق أهل الكتاب: (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط).. فكيف الحال بين طوائف أهل القبلة، بل الحكم بين من فيه فجور، ومن فيه بدعة بالعدل، ووضعهم مراتبهم، وترجيح هذا من الوجه الذي هو فيه أعظم موافقة للشريعة والحق: أمر واجب، ومن عدل عن ذلك ظانا أنه ينبغي الإعراض عن الجميع بالكلية، فهو جاهل ظالم، وقد يكون أعظم بدعة وفجورا من بعضهم”16.
ومن أمثلة هذا قول شيخ الإسلام رحمه الله متكلما عن الأشاعرة: “..في كلامهم من الأدلة الصحيحة، وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف؛ فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث17، وهم يعدون من (أهل السنة والجماعة)18 عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافظة وغيرهم.
بل هم (أهل السنة والجماعة)18 في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم”19.
وفي الختام هذه مقالتي حول هذا الموضوع؛ الذي حوالت فيه جهدي حتى أكون متحررا، ليس تحرر رياء أوسمعة، وإنما هو تحرر ساكن في نفسي وروحي.. منطلقه كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه السلف الكرام، ووفق ما قرره الأئمة الأعلام، وإن خالفنا من خالفنا من القريب أو البعيد وما أردت بذلك إلا إحقاق الحق، وصدق من قال20: “إن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع لا يصبر عنه الجهال، ولأجله كثر الخلاف بين الناس، ولو ينكث من الأيدي من لا يدري لقل الخلاف بين الخلق”.
……………………
1. قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر،…هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه..” الفتاوي 28/209-210
2. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 35/94-95
3. نفسه 4/14
4. وليس هذا من منهج الموازنة المبتدع، فلهذا الأخير صورته ومجاله فلا تعجل علينا أيها القارئ بالفهم المغلوط، فسيأتي معنا في خصوصه إن شاء الله تعالى الكلام المضبوط.
5. المدارج للإمام ابن القيم رحمه الله 2/39
6. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “..وأكثر الناس يتجالسون للتفرج بالحديث ولا يعدو كلامهم التفكه بأعراض الناس أو الخوض في الباطل” الإحياء 2/316.
7. المدراج 1/403
8. ويشير الشيخ رحمه الله ونور الله قبره إلى حديث: “يكفرن العشير” كما عند البخاري وغيره.
9. لقاء الباب المفتوح 67
10. درء التعارض 2/102
11. تنبيهات هامة على ما كتبه الشيخ علي الصابوني في صفات الله عز وجل 46
12. الاستقامة لابن تيمية رحمه الله 1/464، وانظر تمامه فإنه مهم ومفيد.
13. يشير الشيخ رحمه الله إلى أنه : ” ليس كل من وقع في البدعة وقعت البدعة عليه ” قتذكر.
14. فتنبه -يا رعاك الله- إلى أن الثناء على المخالف في محاله ليس ممنوعا كليا، وإنما ينبغي تحديد صورته والمقصود منه، ذلك حتى لا يتذرع عند المنع مطلقا من ذلك بقاعدة سد الذرائع، والحذر من تغرير الآخرين، وتلميع المخالفين.. فهذه وإن كانت من الحق المبين لكن لها مجالاتها وحدودها، أما إذا اعتبرت وفتحت مطلقا فستضيع قواعد وأصول شرعية كالعدل والإنصاف وهكذا دواليك فتأمل وبالعلم تجمل.
15. شريط ” ما هي البدعة ومن هو المبتدع ؟ ” الوجه الثاني ، وانظر كتاب ” المنهج السلفي عند الشيخ ناصر الدين الألباني ” ص: 100
16. بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية رحمه الله 2/348.
17. نسب البعض إلى ابن كلاب رحمه الله -رأس المتكلمين في البصرة- أنه إنما ابتدع ما ابتدعه -من القضايا الكلامية- ليدس دين النصارى في ملتنا، وأنه أرضى أخته بذلك.
فقال الإمام الذهبي رحمه الله معلقا على ذلك: “وهذا باطل، والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة” السير 11/167.
18. وعليه فمن دقيق العلم والنظر مراعاة سياقات ذكر هذا اللقب الشريف في كلام أهل العلم وتحديد المقصود منه والمراد حتى نضع الأمور في مواضعها، ونفهم كلام العلماء فهما صحيحا، ويعجبني في هذا الصدد كلمة للإمام ابن الوزير رحمه الله حيث قال: “وأما أهل السنة فقد يراد بهم أهلها على الحقيقة، وقد أريد بهم من تسمى بها وانتسب إليها، فتأمل مواقع ذلك” إيثار الحق على الخلق 86
19. بيان تلبيس الجهمية 2/87.
20. فيصل التفرقة لأبي حامد الغزالي رحمه الله 92.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *