من أصول أهل السنة السنية: الرد على المخالف للحقائق الشرعية، ونقض البدع المضلة الردية، كل ذلك حفظا للشريعة المحمدية، وإبقاء على الطريقة النبوية النقية، ونصرة لواجب الرابطة الأخوية1، ولذا فالعاقل لا يستوحش من هذه المسالك الأثرية، ولا يضيق درعا من هذه المناهج المرضية لأن “المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، ولكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين”2.
فلا يمكن بحال إماتة إعمال هذه السنة الجهادية3، وطرح هذا الحق من حقوق الله التعبدية، وفتح الباب للعقائد والأعمال البدعية التي “اشتد نكير السلف والأئمة لها، وصاحوا بأهلها4 من أقطار الأرض وحذروا فتنتهم أشد التحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش، والظلم، والعدوان، إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد”5.
ولا يخفى على أصحاب النظر الدقيق أن الرد يقع حتى على العالم مع جلالة قدره ورفعة مكانته دون تزويق؛ إذا قال قولا أو فعل ما ظهرت مخالفته للحق على التحقيق، لأن “الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو: كلام الله الحكيم، وكلام من شهد بعصمته القرآن الكريم، وكل كلام بعد ذلك فله خطأ وصواب، وقشر ولباب”6.
فهذه جادة السنة والكتاب، وما كان عليه سلفنا الصالح أولي الألباب فإن “حراسة العلم أولى من حراسة العالِم”7، إلا أن القائم بهذا الواجب عموما يحتاج إلى مراعاة معالم الطريق لهذا المقام كما كان عليه أئمتنا الكرام، رحمة بالعباد وتحقيقا للعدل في الأحكام ومن ذلك:
التنبه إلى أن نقض البدع والمخالفات لا يتوقف على رضا أحد أو سخطه، فإن الله تعالى ما حمَّل العدول من أهل العلم الأمانة8 إلا للقيام بواجبهم بشرطه وضابطه الذي من صوره: الرد على ذوي الإبطال، ونقض تأويل الجهال، والكشف عن أهل التحريف الغال؛ مما يستوجب أن يكون الأمر ” على وجه النصح؛ وابتغاء وجه الله؛ لا لهوى الشخص مع الإنسان: مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد.. أو تنازع على رئاسة، فيتكلم بمساويه مظهرا للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص، واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان، و(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)..”9.
كما أن هذا الباب كغيره من مسائل الأحكام لا بد فيه من تحقيق المسائل بتخريج المناط القائم على استخراج ما يمكن أن يكون علة للحكم ومقصدا له، وما يُنتجِه ذلك من حكم المؤهل في المسألة بأنها كفر أو بدعة أو فسق، ثم تحقيق مناط ذلك بإنزاله على الواقع المناسب الملائم بعد واجب التثبت والتبين.
كل هذا يفتح المجال لإقامة الحجة وبيان المحجة وإزالة الشبهة وبعده يُنظر في حق العقوبة إذا اقتضى الأمر ذلك10 لا العكس.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “..فقد يكثر أهل الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة، حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئا -عند الجهال- لكلام أهل العلم والسنة، حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء، فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها، حتى تكون العقوبة بعد الحجة.. وإلا فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة”11.
ولا ننسى في خضم ما سبق: تصحيح الفهم أي فهم الآخر كما يقصد ويريد لا كما نريد؛ بما تسمح به قواعد الشرع والعقل والعادة؛ فليس هذا الصنيع من نافلة العمل وإنما هو حق واجب سواء كان الآخر كافرا أو مسلما، سنيا أو مبتدعا لأن “رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنهه رمي في عماية”12.
في جامع بيان العلم للحافظ ابن عبد البر رحمه الله 13 أنه “مما نقم على ابن معين وعيب به أيضا قوله في الشافعي: إنه ليس بثقة، وقيل لأحمد بن حنبل: إن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي فقال أحمد: ومن أين يعرف يحيى الشافعي، وهو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي؟ أو نحو هذا، ومن جهل شيئا عاداه.
قال أبو عمر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله، إن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي رحمة الله على الجميع”.
وأحيانا يُشكِل علينا كلام الآخر فلا نفهمه؛ أو يكون محتملا لعدة وجوه؛ مما يستوجب منا التوقف إلى حين المراجعة والتفهم لا أن نفسره بحسب ما نهوى فـ”قد يَدقُّ مراد المخالف ويخفى جدا ويحتمل الوقف، فيُفسَّر بما لم يقصده.. وكم يختلف أتباع العالم في كثير من مقاصده ويُلزَم ما لم يقصده، كما يُختَلف في كثير من الآيات والأحاديث.. فإذا تقرر هذا فمن العجب تكفير14 كثير ممن لم يرسخ في العلم لكثير من العلماء وما دَرُوا حقيقة مذاهبهم، وهذه هذه وما يعقلها إلا العالمون”15.
ومن ضنائن العلم والنظر الحصيف في مقامنا هذا التنبه إلى أنه قد يُحكَم على الشخص ذما بدعوى فعله أو تقريره لما هو مخالف لأهل السنة والحديث كلهم؛ مع أن الأمر قد يكون على خلاف ذلك حيث ما فعله المحكوم عليه هو مذهب آخر لأهل الحق، وما أتِي الحاكم على غيره ذما إلا من جهة اعتماده على شهرة قول من أقوال أهل السنة في محله ومكانه(!) فـ”إن اشتهار أن القول قول أهل السنة جميعهم قد يكون غير صحيح ويكون جماعة من أهل السنة على خلافه، بل قد يكون القول الذي زعموا أنه قول أهل السنة إنما هو قول طائفة من المتأخرين ويكون قول سلف هذه الأمة -الذين هم أهل السنة حقيقة- على خلافه “16.
واعلم يا رعاك الله أن الرد على المخالف لا يُحكَم بِناؤه إلا إذا استند إلى جملة من الدعائم أساسها: الرد بالحجج السمعية والدلائل العقلية بخلاف ما يسلكه البعض في هذا المجال من مجرد التقبيح والتهويل والشتم والرد العليل إذ “هذا الكلام ليس فيه من الحجة والدليل ما يستحق أن يخاطب به أهل العلم، فإن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد، والإنسان لو أنه يناظر المشركين وأهل الكتاب، لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه، والباطل الذي معهم”17.
إضافة إلى أهمية أن يكون مع الراد علم مفصل بالحق والباطل؛ فيما هو بصدد نقضه فقد يكون عند المرء “دراية واسعة بالبدعة التي يريد الرد عليها مع خبرة مجملة بالسنة، ومن هنا يدخل عليه الزلل إما من جهة تحرير الأجوبة، وإما من جهة إصدار الأحكام على البدعة أو على فاعلها، بل نقص الخبرة بالسنة قد يؤول إلى بدعة أخرى، أو موافقة أهل البدع في أصل من أصولهم أو التأثر بذلك”18 كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في تعليله لأسباب ما دخل من بدع على أبي الحسن رحمه الله عند رجوعه إلى مذهب أهل السنة في الاعتقاد: “كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم”.
ومن المهمات كذلك عند الرد أوالنقض إتباع السنة من كل وجه؛ سواء في طريقة الرد أو المضمون؛ حتى لا يفتح الراد على نفسه بابا من الشر وعليه فـ”لا يمكن الرد على أهل الباطل إلا مع إتباع السنة من كل وجه، وإلا فإذا وافقها الرجل من وجه، وخالفها من وجه، طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالفها فيه، واحتجوا عليه بما وافقهم فيه من تلك المقدمات المخالفة للسنة، ومن تدبر عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم وجد حجتَهم إنما تقوى على من ترك شيئا من الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، فيكون ما تركه من الحق أعظم حجة للمبطل عليهم..”19.
وفي الختام هذه من المهمات التي أحببت تجليتها في مقام الرد على المخالف لما نراه ونسمعه في ساحة الدعوة من خلط بسبب عدم اعتبارها، وخبط لعلة الغفلة عنها وعدم مضغها لبلعها، أو لجهلها وربما لسوء فهمها كل ذلك سطرناه لنشر العلم وإقامة العدل، وللتحلي بالإنصاف وتجنب الاعتساف؛ أما الدافع فآهات متوجع، ولوعة متألم، ونفثة مصدور، نسأله تعالى الأجر والثواب يوم النشور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. قال عليه الصلاة والسلام: “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره” رواه البخاري.
2. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 28/53.
3. قال شيخ الإسلام رحمه الله:” فالراد على أهل البدع مجاهد..” الفتاوي 4/13.
4. قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله: “ولا يكون السكوت الشرعي منهم (أي: من أهل العلم في الرد على المخالف)، إلا في مقامين:
الأول: أن يكون في الرد مفسدة أعظم، كتحول الردود من ميادين جدال إلى ميادين جلاد، ومن معارك أقلام إلا معارك أبدان. وليس كل تحول بمانع في جميع الأحايين، وإنما هذه تقدر بقدرها، ولكل حزة لبوسها..
الثاني: أن يلحق الداعي: بلاء فادح. فالداعي هنا مخير بين الأخذ بالعزيمة التي أخذ بها أولو العزم، وبين الأخذ بالرخصة الموسعة للمستضعفين من الرجال والنساء..” الرد على المخالف 71- 72 الردود.
5. مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله 1/372
6. الروض الباسم لابن الوزير رحمه الله 1/11
7. لهذه الكلمة قصة أنظر ذلك في البصائر والذخائر 9/20.
8. قال العلامة ابن الوزير رحمه الله: “ولو أن العلماء رضي الله عنهم تركوا الذب عن الحق خوفا من كلام الخلق، لكانوا قد أضاعوا كثيرا، وخافوا حقيرا ” الروض الباسم 1/11
9. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 1/221
10. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “..وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم..” الفتاوي 19/191
11. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 3/ 239.
12. كتاب المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي رحمه الله 41
13. 3/415، ونحوه في الانتقاء له كذلك 178
14. أو تبديع أو تفسيق.
15. إثار الحق على الخلق لابن الوزير رحمه الله 404
16. رفع الاشتباه للعلامة المعلمي اليماني رحمه الله 76
17. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 4/186.
18. أصول نقد المخالف للموصلي 100-101.
19. الصواعق المرسلة لابن القيم رحمه الله 4/1504.