تجد النفس المريضة شغوفة بتتبع الزلات، باحثة عن السقطات، حريصة على تصدر المجالس من أجل تجريح ذوي الهيئات، إذا رأى صاحبها سقطة أو كلمة عوراء هرول إلى إشهارها دونما زمام، وجعلها فاكهة لسانه(1) دون إحكام، مع أن الواجب على العبد أن “يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر حتى كأنه هو الذي عثر بها، ولا يشمت به”(2)، وأصل هذا راجع إلى سخاء النفس، وسلامة الصدر، وصفاء السريرة التي بها أدرك الأسلاف المكانة العلية، والمنازل الزكية، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: “لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما أدرك بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة”(3).
فالحذر الحذر من تتبع المثاقب خاصة ما يعرض للدعاة والعلماء وأصحاب المناقب، فإنه سبيل وخيم يحرم بسببه المرء التوفيق، ويحيد عن سواء الطريق ولذا فـ”قول الأئمة الجلة الثقات السادة بعضهم في بعض: مما يجب أن لا يلتفت فيهم إليه، ولا يعرج عليه(4)، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض، على الحسد والهفوات، والغضب والشهوات، دون أن يعنى بفضائلهم، ويروي مناقبهم: حرم التوفيق، ودخل الغيبة، وحاد عن الطريق. جعلنا الله وإياك ممن يستمع القول فيتبع أحسنه”(5).
ومما امتطاه البعض في هذا المضمار فحصل منهم تهور في إطلاق اللسان بالتهمة، ومجازفة في توزيع الأحكام بالضلال والبدعة: دعوى الانتصار للصواب بصورة لا تشم فيها رائحة العلم والانضباط والسير وفق سنن أولي الألباب، مع أن الغيرة على الحق لا تسوغ العدوان على الفضلاء وذوي السبق، وصدور ذلك ممن صدر من أسبابه شدة التعصب وسوء النظر ومن تم “وقع اليأس منهم، إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من آفات علماء السوء فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار”(6)، ففتنوا بالتعصب وسب الخصوم وظنوا أنهم يقدمون خيرا بل “سموه ذبا عن الدين، ونضالا عن المسلمين، وفيه على التحقيق هلاك الخلق ورسوخ البدعة في النفوس”(7).
وننبه هنا حتى لا يغتر مغتر: أن شيئا من هذا الاندفاع في وقتنا الحاضر -كما وقع في الزمن الغابر- قد جرى من بعض أهل العلم والفهم فلم يهذبوا حاشية منطقهم(8).. فبدت الزلة والوهم، وفي حق أمثال هؤلاء الأخيار وذوي المكرمات أقول لك يا طالب العلم النجيب: استفد العلم منهم وتجنب الرعونات، حتى تفلح وتدرك سني المقامات.
قال سليمان بن سالم المالكي رحمه الله: كنا نقرأ على أبي سنان زيد بن سنان الأسدي رحمه الله في مسألة، فتكلم أحدنا ببعض أهل العلم يتنقصه فيها، فنهاه أبو سنان وأسكته ثم قال: “إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس فمتى يفلح؟”(9).
فاعلم يا رعاك الله أن الهفوة وأدنى ابتداع لا يقدح في التوثيق والاتباع(10) ولا يُِِعترض على هذا بأن أهل العلم في كتب التراجم يذكرون زلات بعض العلماء والفضلاء أو هفواتهم، لأن ذلك ليس لأجل الانتقاص منهم، وإنما ليتمكن الباحث من التمييز بين الرجال وتجنب المغالطة ومعرفة الأوثق والأرجح عند التعارض والمخالفة.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة علي بن المديني رحمه الله: “ثم ما كل أحد فيه بدعة أو له هفوة أو ذنوب يقدح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شرط الثقة أن يكون معصوما من الخطايا والخطأ، ولكن فائدة ذكرنا كثيرا من الثقات الذين فيهم أدنى بدعة، أو لهم أوهام يسيرة في سعة علمهم، أن يعرف أن غيرهم أرجح منهم وأوثق إذا عارضهم أو خالفهم، فزن الأشياء بالعدل والورع”(11).
ومنه فما ينبغي أن نعطي للزلات والغلطات أكثر من حجمها فنرتب عليها الأحكام الجاهزة وكثرة المغالطات فهذا من قبيح المنكرات، خاصة في حق أصحاب الأصول الصحيحات فـ”من جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا، فهو مخطئ ضال مبتدع”(12).
وصدق من قال موصيا(13): “عدُوا رجالكم، واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم”، فنحرم علمهم ويضيع علينا فقههم.
قال العلامة المعلمي رحمه الله: “الحكم على العلماء والرواة يحتاج إلى نظر وتدبر وتثبت أشد مما يحتاج إلى الحكم في كثير من الخصومات، فقد تكون الخصومة في عشرة دراهم فلا يخشى من الحكم فيها عند الغضب إلا تفويت عشرة دراهم، فأما الحكم على العالم والراوي فيخشى منه تفويت علم كثير وأحاديث كثيرة، ولو لم يكن إلا حديثا واحدا لكان عظيما”(14).
ولا نعني بهذا الكلام بحال عدم رد الخطأ لأن بيانه من باب حظ الشريعة، ولا يلزم من ذلك دوما الكلام في صاحب الغلط لأن هذا الأخير من باب حظ المخالف، والواجب أن نعطي كل حظ حقه ومستحقه(15).
فالقاعدة الأصيلة المقررة في الشريعة الغراء والمعلومة عند العلماء أن الأصل هو بيان الأخطاء دون التعرض للأشخاص خاصة النجباء(16).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في معرض كلامه عن رد الباطل والخطأ: “فيكون ذلك بأحسن عبارة، وألطف إشارة، دون تهجم، أو تجريح، أو شطط في القول يدعو إلى رد الحق، أو الإعراض عنه.
ودون تعرض للأشخاص، أو اتهام للنيات، أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها”(17).
والمتأمل في منهج النبي عليه الصلاة والسلام في التنبيه على الأخطاء يجد أنه عليه الصلاة والسلام في معظم أحواله يكتفي بالبيان العام كقوله: “ما بال أقوام، أو ما بال رجال” ونحو ذلك، ومن ذلك ما ورد في قصة الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيوت النبي عليه الصلاة والسلام ليسألوا عن عبادته فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء، فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام قال: “ما بال أقوام يقولون كذا وكذا” متفق عليه.
وعلى هذا النهج سار الأئمة والعلماء، ففي قصة الخلاف الذي وقع بين الزبير رضي الله عنه ورجل من الأنصار في السقي، وفيه أنهما تحاكما إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال للزبير: “اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك” متفق عليه.
يقول العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله: “لله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه ستراً عليه، كي لا يغضي من مقامه، وهكذا فليكن الأدب، وكفانا في هذا الباب إبهام التنزيل في كثير من قصصه الكريمة”(18).
ومن عظيم ما ينبغي أن يكون مقررا عندنا في هذا الصدد: عدم التلازم بين الخطأ والإثم كما هو معتقد أهل السنة والحديث فإن “أهل الضلال هم الذين يجعلون الخطأ والإثم متلازمين”(19).
فإذا اتضح ما سبق، واستقر في الخفق: فهل ستسعى لتنقية نفسك من عللها؟ أم ستولي معرضا عن قبحها؟!
فشمر يا هذا إلى إحكام علمك، واحرص على تطهير نفسك، فإن الأخلاق أنفاس، تؤخذ بالاقتباس، وصحبة الأكياس، وتعهد الأساس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. يقول الإمام القرافي رحمه الله: “والتفكه بأعراض المسلمين حرام والأصل فيها العصمة” الفروق 8/259.
2. كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين 1/439.
3. غربة الإسلام لابن رجب رحمه الله 87، وقال إياس بن معاوية رحمه الله: “كان أفضلهم عندهم (أي:السلف ) أسلمهم صدرا وأقلهم غيبة “أخرجه الطذبراني في مكارم الأخلاق 388.
4. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: “كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس” ميزان الاعتدال 1/111.
5. قاله الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في جامع بيان العلم وفضله 2/152.
6. الإحياء للغزالي رحمه الله 1/41.
7. نفسه.
8. كما في كلمة العلامة الخضر حسين رحمه الله عند حديثه عن الإمام ابن حزم رحمه الله حيث قال: “هو الحافظ أبو محمد علي ابن الوزير أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي…بلغ من الذكاء وغزارة العلم منزلة فائقة، فألف الكتب القيمة، وناضل عن كثير من حقائق الدين بالحجج الباهرة، ولكنه لم يهذب حاشية منطقه، ولم يحتمل منه علماء عصره هذه السيرة الشاذة فنهضوا في وجهه..” نقلا عن كتاب “الوقفات على المقدمات” لعبد القادر حرز ص:176 حاشية:1.
9. ترتيب المدارك لعياض رحمه الله 4/104.
10. وفي هذا الصدد نورد كلمة الإمام الذهبي رحمه الله في حق الإمام العقيلي رحمه الله حيث أورد هذا الأخير الإمام علي بن المديني رحمه الله في كتابه الضعفاء لهفوة بدت منه، فقال الذهبي رحمه الله: “وقد بدت منه (أي: المديني ) هفوة ثم تاب منها، وهذا أبو عبد الله البخاري -وناهيك به- قد شحن صحيحه بحديث علي بن المديني.
ولو تركت حديث علي، وصاحبه محمد، وشيخه عبد الرزاق، وعثمان بن أبي شيبة…لغلقنا الباب، وانقطع الخطاب، ولماتت الآثار، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجال.
أفما لك عقل يا عقيلي؟! أتدري فيمن تتكلم؟ وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم، ولنزيف ما قيل فيهم.
كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك، فهذا مما لا يرتاب فيه محدث.
وأنا أشتهي أن تعرفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه..” ميزان الاعتدال 3/140_141.
11. نفسه 3/141.
12. كما قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوي 11/15.
13. وهو الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله، وقد استشهد بكلامه هذا الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله في رسالته تصنيف الناس 91.
14. التنكيل 1/53.
15. والتفريق بين المقامين من المهمات التي ينبغي فهمها ومضغها، انظر الفتاوي الكبرى لابن تيمية رحمه الله 3/177-178.
16. هذا باعتبار الأصل وإلا في حالات معينة يستدعي المقام ذكرهم كما قال ابن تيمية رحمه الله: “فلا بد من التحذير من تلك البدع، وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم..” الفتاوي 28/233.
17. مجموع فتاوي الشيخ ابن باز رحمه الله 7/313.
18. محاسن التأويل 5/278.
19. مجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 35/69، بتصرف يسير، ومما ينبغي أن يقرر عند هذا المقام مزلة بعض الباحثين الذين بنوا نقد مخالفيهم على التلازم بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذا خطأ فاحش يؤول إلى الغلط في الأحكام فتنبه.