باستقراء مختلف ردود الفعل سواء المؤيدة أو المناهضة لما قام به أعضاء الحركة البديلة للدفاع عن الحريات الفردية “مالي” يظهر جليا أن الأمر لا يعدو أن يكون مظهرا من مظاهر الحرب بين الدين واللادين، بين الإسلام والعلمانية، بين الهوية والتغريب، بين الإلحاد والإيمان.
لكن هذه الحرب تتوارى حدة معاركها في كل مرة خلف شعارات من قبيل الدفاع عن حقوق المغاربة وحرياتهم الفردية، وعن الديمقراطية والحداثة، وحقوق الإنسان والمواطن، وملاءمة القوانين الوطنية مع العهود الدولية…
فعن أي مغاربة يدافع العلمانيون؟
وبأي حقوق وحريات يطالبون؟
وما هي المرجعية التي ينطلق منها هؤلاء في تحديد هذه الحقوق؟
وبالرجوع ثانية إلى تصريحات المؤيدين ونعني بالخصوص الحقوقيين والجمعويين والنخبة من الصحفيين وكلهم علمانيون، نلاحظ إجماعهم على أمرين اثنين:
الأول: أن التدين مسألة شخصية.
الثاني: أن المواثيق والعهود الدولية مقدمة على الدين الإسلامي والهوية والقوانين الوطنية.
إن اعتبار ممارسة الدين مسألة شخصية إنما يبنيه أصحابه على تقديسهم للحرية الفردية المطلقة، فعلى أي أساس بنيت هذه الحرية الفردية؟
أساس الحرية الفردية
يعتبر هذا النوع من الحريات أخطر ما أنتجه الفكر الغربي، وأخبث ما تشبعت به الحياة في المغرب اليوم بفعل الاختراقات العلمانية الأجنبية باسم التعاون مع النخبة الديمقراطية من أجل إرساء أسس هذه الأخيرة، حتى إن الإنسان ليكاد يوقن بالتطابق مع حالة المجتمعات الغربية التي وصفها “جورج سانتيانا” في كلمته: “إن حياتنا بكاملها وعقلنا قد تشبعا بالتسرب البطيء الصاعد لروح جديدة هي روح ديمقراطية دولية متحررة وغير مؤمنة بالله”.
ولعل أبشع تجليات هذه الديمقراطية الدولية في حالتنا ما اصطلح عليه بـ: “الحرية الفردية”، ذلك الصنم الذهبي الذي يشبه عجل السامري، الذي لا يمل العلمانيون من الرقص والطواف حوله، يستلهمون منه كل مشاريعهم تقليدا للغرب وليس إبداعا منهم، فكلهم يطالبنا بامتثال أمر المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء طرح أسئلة من قبيل: من وضعها؟ ولمن وضعت؟
إن حقوق الإنسان وضعها الإنسان الغربي ليستفيد منها الإنسان الغربي نفسه، خلع عليها صفة الكونية حتى يصبح كل من اعترض عليها خارجا عن الإجماع الدولي، هذا الإجماع الذي انتزعه الغرب المزهو بانتصاراته وقوته المادية من دول العالم الفقيرة المنهزمة تحت طائلة العقوبات الاقتصادية واختلاق المشاكل الإقليمية والداخلية.
فاحترام حقوق الإنسان أصبح إيديولوجية الدول الكبرى لإخضاع الدول الفقيرة، خصوصا الإسلامية منها، فقد رأينا كيف ضغطت أمريكا على مصر لتبني الديمقراطية حتى تدمجها كرها في الحرب على الإرهاب وتضمن عدم اعتراضها على المجازر الصهيونية في فلسطين، بينما تعتبر تقاريرها وتقارير الاتحاد الأوربي الكيان الصهيوني الدولة الديمقراطية الوحيدة في “الشرق الأوسط”.
فعلى أي أساس أصبح مجرمو الحرب أمثل الديمقراطيين؟
ألم تعلن فرنسا شعار الحرية والإخاء والمساواة منذ ثورتها؟
فماذا كانت حقيقة هذا الشعار على أرض المغرب والجزائر وتونس وسوريا وبلدان إفريقيا..؟ باسم من قتلت ملايين البشر في “مستعمراتها”(مستخرباتها)، باسم الصليب، أم باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان أم باسميهما معا؟
لقد أصبح لزاما على الأحرار من المسلمين أن يعيدوا النظر في التعامل مع كل ما أنتجه الإنسان الغربي، على ضوء سياسته الخارجية وليس الداخلية. لأن سياسته الداخلية لا تهتم بالأجانب إلا لكونها لم تجد صيغة تقصيهم من خلالها من الاستفادة من القوانين مع الحفاظ على مظاهر العدالة والمساواة.
ثم لنسائل العلمانيين عن الأساس الذي بنى عليه الغرب مفهوم الحرية الفردية، وهل يعترف هذا المفهوم في بنائه وتطبيقاته بحقوق الخالق؟
إن الحرية الفردية لم تجد لها مكانا في الفكر الأوربي إلا بعد أن ثارت العلمانية على الكنيسة وسلبتها سلطتها على المجتمع، أي بعد أن أزاحت عن الحكم كل قانون يستند إلى الدين، فأقصت الحكم باسم الإله وحكمت أرض الله باسم الإنسان/الفرد.
الحرية الفردية لم تكتمل كمفهوم قائم بالذات إلا بعد أن ألغى الإنسان الغربي كل صلة له بالله سبحانه، بل بعد أن صرح فلاسفتها (نيتشه وغيره) بموت الإله تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا.
فكيف يطلب منا العلمانيون أن نمتثل ما يمليه مفهوم الحرية الفردية من كفر وإلحاد؟
فالغرب عندما قنن اللواط والسحاق والبغاء، واستحل الربا والقمار والزنا وغيرها من الموبقات كان منسجما مع عقيدته العلمانية الإلحادية، وصاغها كحقوق جديدة للإنسان الغربي العلماني الملحد، فهي لا تهمنا نحن المسلمين، وعلينا أن نساعد دولنا للتخلص من الضغوطات الأجنبية بكل الوسائل المشروعة.
إن هذا التناقض بين المرجعية الإسلامية للمغرب والمغاربة وبين المرجعية الإلحادية المؤسسة لحقوق الإنسان، هو ما يفسر اضطراب النظام المغربي في قبول ملاءمة قوانينه مع قوانين ومواثيق حقوق الإنسان التي سبق أن صادق عليها، وهو ما يفسر عدم قدرته على التعامل بحزم شديد مع المتطرفين العلمانيين في خرجاتهم التي يسمونها نضالا.
هذه الخرجات التي لا يستحيي العلمانيون فيها بالتصريح أن بحقوق الشواذ اللواطيين والسحاقيات، وحقوق البنات في الاستمتاع بالزنا، وحرية المواطن في الارتداد عن دينه وغيرها من الحريات بدعوى وجوب ملاءمة المغرب لقوانينه مع ما سبق أن صادق عليه من المواثيق والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
المواثيق والعهود الدولية تحارب الدين الإسلامي
والهوية والقوانين الوطنية
معلوم أن لكل بلاد أو شعب خصوصياته، فإن كانت العلمانية أعم خصوصيات المجتمعات الأوربية فإن أهم خصوصياتنا نحن المسلمين تتمثل في ديننا الذي هو أساس نشأة بلادنا وسر وحدة شعبنا بل كان دوما هو العروة الوثقى التي منعت بيضتنا أن تستباح من طرف أعدائنا طيلة قرون طويلة هي عمر الدولة المغربية على اختلاف الأسر المتعاقبة على دفة الحكم.
إلا أن معطيات دولية كالحربين العالميتين والحرب الباردة، ووطنية كالاحتلال العلماني الفرنسي وما سبقه من مظاهر عدم الاستقرار التي عاشتها البلاد لعقود طويلة، وكذا هيمنة الفكر الصوفي الخرافي الموغل في القبورية، ساهمت في التمكين للفكر العلماني المادي خلال فترة الاحتلال وبعد خروجه، من خلال ما سنَّه من ترسانة قانونية علمانية أزاحت الشريعة الإسلامية عن الحكم والقضاء ومع ذلك بقي المغاربة متشبثين بدينهم، بل أصبح الكثير منهم يطالبون برد الاعتبار إلى الشريعة الإسلامية، مما لم تستسغه الدول الغربية فشددت من هجماتها على النظام المغربي من خلال دعمها السافر للجمعيات المشبوهة مثل جمعية “كيف كيف” للشواذ، وجمعية لا عاهرات ولا خاضعات” وآخرها حركة “مالي”، بالإضافة إلى تنسيقها مع المنظمات الحقوقية للضغط على النظام حتى يتخلى عن آخر مظاهر الدين في قوانينه والمتمثل في عقوبة المجاهر بالإفطار، والتمييز بين الرجل والمرأة في الإرث، ومنع القساوسة والرهبان من الدعوة إلى دينهم، وغيرها مما يمكن اعتباره من الدين.
إن العلمانيين المنضوين في الجمعيات الحقوقية وغيرهم ممن يرون أن على المغرب أن يلائم قوانينه مع ما تنص عليه المواثيق والعهود الدولية، لا يعيرون للإسلام ولا لمقومات الهوية الوطنية أي اعتبار، ولا يهمهم إذا صرنا في المغرب إلى ما صارت إليه المجتمعات الغربية من إلحاد ومحاداة لله وكتبه ورسله، ولنستمع إلى تصريح الرئيس السابق للجمعية المغريبة لحقوق الإنسان والنائب الحالي لرئيستها عبد الحميد أمين بخصوص قضية المفطرين عمدا في رمضان: “فعندما تطرح الحركة الحقوقية مطلب إلغاء عقوبة الإعدام الذي نؤمن بصحته وضرورة تطبيقه دون تماطل، نعتقد في نفس الوقت أنه لو طرح هذا المطلب لاستفتاء شعبي فسيكون خمسة وتسعون في المائة من المغاربة ضده نظرا للمروث الثقافي المرسخ.
نفس الشيء بالنسبة للمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة الذي تطرحه الجمعية باعتباره مطلبا حقوقيا أو بالنسبة للفصل 222 من القانون الجنائي، خلاصة القول إن الجمعية التي تعتمد على المرجعية الكونية في حقوق الإنسان، لا تتردد في ملائمة كافة القوانين المغربية مع معايير حقوق الإنسان ولو كان ذلك أحيانا صادما للمشاعر السائدة”.
فماذا يبقى من الخصوصية المغربية التي أهم معالمها الدين الإسلامي إذا نحن ألغينا ما تبقى من الإسلام في القوانين الوطنية؟
ولماذا يتهم العلمانيون من يقول إن العلمانية تحارب الدين، وإن المرجعية الكونية وعلى وجه الخصوص ما تعلق منها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا مناقضة للإيمان والإسلام بأنه متطرف رجعي وهابي؟
إن العلمانيين يحاولون أن يغيروا قناعات الخمسة وتسعين في المائة الذين تحدث عنهم عبد الحميد أمين، حتى يقبلوا بالمرتدين، وبالشواذ وبالمساواة في الإرث وغيرها من قيم الحرية الفردية العلمانية المادية.
أما من يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا رسولا فلا يرى لنفسه حرية إلا في نطاق حدود الله الفرد الصمد، لإيمانه بأنه عبد لله ولن يحظى بشرف العبودية لله إلا إذا أدى حق ربه كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه في وصيته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: كنت رديف النبي صلي الله عليه وسلم فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا “أخرجه البخاري ومسلم. ومن صميم عبادة الله امتثال أوامره في كل صغيرة وكبيرة لقوله تعالى: “فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً” النساء.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.