نماذج وصور من الغلو في الأولياء والصالحين

غلت بعض الطوائف في الأولياء غلوا شديدا حتى رفعوهم إلى منزلة الأنبياء، ولم يقفوا عند هذا الحد بل تجاوزوا بهم منزلة الأنبياء حتى أوصلوهم إلى منزلة الألوهية والربوبية، فوقعوا بذلك كما بين العلماء في عقائد باطلة تصطدم تماما مع العقيدة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن في هذا المقام لا نود الخوض في مبحث جواز أو منع وصف مثل هؤلاء الأشخاص بالولاية، ولا تتبع الانحرافات التي وقعت في هذا الباب، وإنما المقصود هو ذكر بعض النماذج فقط.

رفع مشايخهم وأوليائهم إلى منزلة الألوهية والربوبية
قال ابن عربي في منزلة القطب: “القطب هو مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق عليه مدار العالم، له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق ومنزلة حضرة الإيجاد والصرف، فهو الخليفة ومقامه تنفيذ الأمر وتصريف الحكم، وحاله حالة العامية لا يتقيد بحال تخصيص فإنه الستر العام في الوجود، وبيده خزائن الوجود، والحق له متجل على الدوام، وله من البلاد مكة، ولو سكن حيث ما سكن بجسمه فإن محله مكة ليس إلا” (الإنسان الكامل والقطب الغوث الفرد من كلام الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي).
وادعوا بأن مشايخهم لهم القدرة الكاملة على إجابة كل من استغاث بهم وأنهم يستطيعون تفريج كرب مَن دَعاهم، بل بالغوا فيهم حتى زعموا بأنهم باستطاعتهم أن يتحدوا الله تعالى في قضائه وقدره.
فقد ذكر صاحب كتاب “مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني” راويا عن الرفاعي أنه قال:
“توفي أحد خدام الغوث الأعظم وجاءت زوجته إلى الغوث فتضرعت والتجأت إليه وطلبت حياة زوجها، فتوجه الغوث إلى المراقبة فرأى في عالم الباطن أن ملك الموت عليه السلام يصعد إلى السماء ومعه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فقال: يا ملك الموت قف وأعطني روح خادمي فلان وسمَّاه باسمه، فقال ملك الموت: إني أقبض الأرواح بأمر ربي؟
فكرر الغوث عليه إعطاءه روح خادمه إليه فامتنع من إعطائه، وفي يده ظرف معنوي كهيئة الزنبيل فيه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فبقوة المحبوبية جر الزنبيل وأخذه من يده فتفرقت الأرواح ورجعت إلى أبدانها، فناجى ملك الموت عليه السلام ربه فقال: يا ربي أنت أعلم بما جرى بيني وبين محبوبك ووليك عبد القادر، فبقوة السلطنة والصولة أخذ مني ما قبضته من الأرواح في هذا اليوم، فخاطبه الحق جل جلاله: يا ملك الموت إن الغوث الأعظم محبوبي ومطلوبي لِمَ لا أعطيته روح خادمه وقد راحت الأرواح الكثيرة من قبضتك بسبب روح واحدة فتندم هذا الوقت” (كتاب تفريج الخاطر في مناقب تاج الأولياء وبراهين الأصفياء الشيخ عبد القادر الجيلاني، وذكره أحمد الغماري أيضا في جؤنة العطار).
وذكر الدباغ في الإبريز: “وأهل الديوان إذا اجتمعوا فيه اتفقوا على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد، فهم يتكلمون في قضاء الله تعالى في اليوم المستقبل والليلة التي تليه، ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية، وحتى في الحجب السبعين فهم الذين يتصرفون فيه وفي أهله وفي خواطرهم وما تهجس به ضمائرهم فلا يهجس في خاطر واحد منهم شيء إلا بإذن أهل التصرف”.
وذكر بأن محمد الصديق وقع في البحر ولم يكن يعرف السباحة فكاد أن يغرق فناداه -أي عبد القادر- مستغيثا فحضر وأخذ بيده وأنقذه من الغرق. (المواهب الجلية في مناقب النقشبندية).
وبالنظر إلى مثل هذه النصوص نلاحظ بأن أصحابها يجيزون الالتجاء إلى المخلوق والاستغاثة به، ويدعون أن الولي يعلم بكل ما في هذا الكون وهو جالس في مكانه، وأن باستطاعته تغيير القدر الذي قدره الله في الأزل، وأنه يسمع كل من ناداه واستغاث به.. ولو عرضنا مثل هذه المعتقدات على كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم سنجدها تصطدم تماما مع الاعتقادات التي أمرنا باعتقادها.
فالله تعالى يقول: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} نوح، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} الإسراء، وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} القصص، فهذه النصوص القرآنية وغيرها كثير تدل دلالة صريحة بأن لا أحد باستطاعته منازعة الله تعالى في قضائه وقدره، وأن كل مدعو سوى الله تعالى لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملكه لغيره.

ادعاؤهم بأن لهم علوما خاصة يتلقونها عن الله وعن رسوله مباشرة
قال صاحب “الرماح” الذي بهامش “جواهر المعاني” في الفصل الثاني والعشرين: “إنهم لا ينطقون إلا بما يشاهدون ويأخذون عن الله ورسوله الأحكام الخاصة للخاصة لا مدخل فيها للعامة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يلقي إلى أمته الأمر الخاص..”.
ثم قال: “إن الكامل منهم ينزل عليه الملك بالأمر والنهي”.
ونقل الشعراني عن ابن عربي أنه قال: “حدثني قلبي عن ربي، أو حدثني ربي عن قلبي، أو حدثني ربي عن نفسه بارتفاع الوسائط” لطائف المنن للشعراني 1/145.
لازم هذا الكلام يقتضي عدم ختم النبوة وبقاء بابها مفتوحا لكل من يدعي التلقي عن الله مباشرة، وهو انحراف عقدي خطير عده العلماء الراسخون مخالفا لما حكاه القرآن الكريم {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} الأحزاب، وصريح السنة: “لا نبي بعدي” رواه مسلم، بل شنعوا على من يدعي مثل ذلك، وعدوه دجالا مفتريا على الله تعالى يجب أن يستتاب حتى لا يفتن المسلمين في دينهم.

الادعاء بأن لهم اطلاع على الغيب
ذكر ابن عجيبة في كتابه معراج التشوف (ص:88): من أقوال أبي العباس المرسي: “ما من وليّ كان أو هو كائن إلا أطلعني الله عليه وعلى اسمه ونسبه وحظه من الله تعالى”.
وقال ابن عربي في كتابه التجليات: “للأرواح الإنسانية إذا صفت وزكت معارج في العالم العلوي المفارق وغير المفارق فينظر مناظر الروحانيات المفارقة، فترى مواقع نظرهم في أرواح الأفلاك ودورانها بها، فينزل مع حكم الأدوار وترسل طرفها في رقائق التنزيلات حتى ترى مساقط نجومها في قلوب العباد، فتعرف ما تحويه صدورهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وما تدل عليه حركاتهم.. وإذا توجهت الأسرار نحو قارئها بفناء وبقاء، وجمع وفرق، سقطت عليها أنوار الحضرة الإلهية من حيثها، لا من حيث الذات، فأشرقت أرض النفوس بين يديه فالتفت فعلم ما أدركه بصره وأخبر بالغيب وبالسرائر وبما تكنه الضمائر وما يجري في الليل والنهار”.
وقال: “يرتقي الوليّ إلى عالم الغيب فيشاهد اليمين ماسكة قلمها وهي تخطط في اللوح” (مواقع النجوم لابن عربي ص 82).
وقال: (من الصوفية من لا يزال عاكفا على اللوح، ومنهم من يشهده تارة تارة) (مواقع النجوم لابن عربي ص 148).
وهذا الكلام مناقض لعقيدة الإسلام في الإيمان بالغيب فقد قال تعالى: “عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً”.
قال القرطبي رحمه الله تعالى في الجامع لأحكام القرآن: “والغيب ما غاب عن العباد، فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ومنها الإخبار عن بعض الغائبات..”.
وقال ابن جرير الطبري: “وقوله: عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ يعني بعالم الغيب: عالم ما غاب عن أبصار خلقه، فلم يروه فلا يظهر على غيبه أحدا، فيعلمه أو يريه إياه إلا من ارتضى من رسول، فإنه يظهره على ما شاء من ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل”.
وبالعودة إلى مراجع وكتب أهل السنة والجماعة يتبن لنا أن كلمة علماء وأئمة الإسلام اتفقت على نفي علم الغيب عن جميع ما في هذا الكون، ومن هنا فإن باب علم الغيب قد سد نهائيا.
إن أول شرك حصل على وجه الأرض كان سببه الغلو في الصالحين، والطوائف التي سلكت هذا السبيل المنحرف قد تشبهت في أعمالها تلك بالروافض الذين رفعوا أولياءهم فوق مقام النبي والرسول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *