عقيدة العلمانيين في الوحي والكتب المنزلة من عند الله تعالى

إذا أردنا الاطلاع على عقيدة العلمانيين ودعاة الحداثة المزعومة في هذا الركن من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالوحي والكتب المنزلة من عند الله تعالى فإننا نجد أنهم قد ضلوا في هذا الركن ضلالا بعيدا، شأنهم في ذلك شأن انحرافاتهم في أركان الإيمان الأخرى، فهم لا يعطون الكتب الدينية والوحي المنزل من عند الله تعالى أي تقديس، سواء كانت نسبتها إلى الله تعالى حقيقية كالقرآن وصحيح السنة، أو فيها ما لا يصح نسبته إلى الله تعالى مثل التوراة والإنجيل المحرفين، فيجعلون هذه الكتب أقل منزلة واحتراما من الدساتير والمذاهب والمناهج التي يؤلفها البشر، بل اخترعوا مناهج سموها عقلية وتاريخية ونقدية وموضوعية جعلوها مهيمنة على نصوص الوحي..

ولما كانت أوروبا قد قطعت شوطا كبيرا في الأخذ بالماديات والركون إلى الفلسفات الشكية واللاأدرية والإلحادية، نتج عن ذلك أن اتجه مجموعة من فلاسفة الغرب لدراسة التوراة والإنجيل على ضوء هذه المذاهب والفلسفات، فأسسوا بذلك مدارس تهتم بنقض نصوص الوحي وإجراء الدراسات النقدية (النقضية) والتاريخية عليها.
وعندما أخذ المستغربون من أبناء المسلمين ما أخذوا عن أساتذتهم الغربيين من انحرافات وأباطيل كان من ضمن ذلك انحرافاتهم في الكتب المنزلة عامة، والقرآن العظيم خاصة. ولا يبرح هؤلاء يمارسون سياسة الاسترضاء لأسيادهم حتى أقدموا على التطاول الصريح على مقام الوحي المعصوم، وطالبوا بإخضاعه لقواعد النقد الأدبي شأنه شأن غيره من النصوص الأدبية.
قال المصري نصر حامد أبو زيد: “إن النص القرآني وإن كان نصا مقدسا إلا أنه لا يخرج عن كونه نصا، فلذلك يجب أن يخضع لقواعد النقد الأدبي كغيره من النصوص الأدبية” (مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص:24). (للإشارة فقد سبق أن حكم بردته القضاء المصري وكذا علماء الأزهر).
وقال الجزائري الفرنسي محمد أركون: “نحن نريد القرآن المتوسل إليه من كل جهة، والمقروء والمشروح من قبل الفاعلين الاجتماعيين (المسلمين) مهما يكن مستواهم الثقافي وكفاءتهم العقائدية، أن يصبح موضوعا للتساؤلات النقدية المتعلقة بمكانته اللغوية، التاريخية والأنتربولجية والثيولوجية والفلسفية..” (الفكر العربي قراءة علمية ص:246). (للإشارة كان من أحد الحكماء الأربعين الذين أفتوا للرئيس شيراك بمنع الحجاب في فرنسا).
وللمغربي محمد عابد الجابري رأي خاص في هذا الموضوع، فرغم موافقته لإخوته على درب العلمنة والحداثة في المنهاج والأهداف، إلا أنه ارتأى طريقة عمل مختلفة للتمكين لهذه القيم داخل المجتمع، لأنه يرى أنه: “لا الوضعية الثقافية ولا البنية الفكرية العامة المهنية، ولا درجة النضوج لدى المثقفين أنفسهم يسمح بهذا النوع من الممارسة الفولتيرية -نسبة إلى فولتير الفيلسوف الفرنسي الذي اشتهر بنقد الفكر الكنسي- للنقد اللاهوتي، ولا السياسة تسمح، وبطبيعة الحال فالإنسان يجب أن يعيش داخل واقعه لا خارجه حتى يستطيع تغييره”.
ويفصح عن خطته بهذا الصدد قائلا: “هناك من يرى أن من الواجب مهاجمة اللاعقلانية -أي من يتبنى القرآن والسنة مرجعية- في عقر دارها وهذا خطأ في رأيي، لأن مهاجمة الفكر اللاعقلاني في مسلماته في فروضه في عقر داره يسفر في غالب الأحيان عن إيقاظ/تنبيه/رد الفعل، وبالتالي تعميم الحوار بين العقل واللاعقل، والسيادة في النهاية تكون خاضعة حتما للاعقل، لأن الأرض أرضيته، والميدان ميدانه، والمسألة مسألة تخطيط”. (التراث والحداثة ص:259).
وما يدعو إليه الجابري حتى لا تحدث ردة الفعل هذه هو تأخير هذه المرحلة حتى يحين وقتها، “يجب علينا أن ننقد مفاهمنا الموروثة -يمكن أن نمارس النقد اللاهوتي من خلال القدماء-، يعني نستطيع بشكل أو بآخر استغلال الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي ما بين المتكلمين بعضهم مع بعض ونوظف هذا الحوار، لنا حرمات يجب أن نحترمها حتى تتطور الأمور، المسألة مسألة تطور” (التراث والحداثة ص:260).
وهذا يفسر كيف يبدأ العلمانيون معتزلة ثم ينتهون في بعض الأحيان زنادقة. (التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم، عرض ونقد، منى محمد بهي الدين الشافعي، ص:104).
وقد تمنى الجابري أن يُسقط منهجه على أعلام الإسلام المشهورين أيضا كابن تيمية، حيث قال: “..لو كان لدي مثل هذا الميل نحو مشروع إصلاحي؛ لكان في برنامجي الاشتغال على ابن تيمية أيضا، ولقدمت للقراء وجهًا آخر عنه يختلف عن الوجه السائد والمؤدلج..” (مقابلة أجراها عبد الإله بلقزيز مع الجابري في مجلة: المستقبل العربي، العدد 278).
ويصف الروائي الطاهر بن جلون إحدى الشخصيات التي تعلم الصغار القرآن بقوله: “لا بد أن أذهب، فالأطفال رهيبون، إنني أحاول تعليمهم القرآن مثلما كنت سأفعل بشعر رائع، لكنهم يطرحون أسئلة مركبة من قبيل (هل حقا سيدخل جميع النصارى النار؟) أو (بما أن الإسلام هو أفضل الديانات فلماذا انتظر الله كثيرا كي ينشره؟)، وكجواب أردد السؤال رافعا عيني إلى السقف: (لماذا وصل الإسلام متأخرا جدا؟) (ليلة القدر ص:59).
ومعلوم المنهج التلبيسي الذي يسلكه عامة العلمانيين للطعن في نصوص الوحي، بادعائهم الانتساب إلى الإسلام وحب القرآن والوحي والغيرة على الدين والأرض والعرض، ثم يعمدون بعد ذلك -ومن داخل الصف- إلى زرع الشك وإلقاء الشبه والتشكيك في الثوابت والمسلمات.
..وأول دلائل ضلال هذه الفئة أنهم لم يفرقوا بين الكتب السابقة التي دخلها التحريف والكذب، والكتاب الخاتم المهيمن الذي لم يدخله تحريف أو تبديل، و{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت.
وثاني دلائل ضلالهم أن في الكتب السابقة من محالات العقول ومناقضة حقائق التجربة -بسبب التحريف الذي دخلها- ما قد يبرر دراستها والتأكد من حقيقتها، أما القرآن العظيم فليس فيه ما تحيله العقول، وإن كان فيه ما تحار فيه العقول، وليس فيه ما يناقض حقائق العلوم التطبيقية، بل فيه ما يطابق هذه الحقائق مما أطلق عليه في هذا الزمان (الإعجاز العلمي في القرآن والسنة)، وفيه من المطابقات واالموافقات ما يلجم لسان كل شاك وملحد ويزيد إيمان كل مسلم. (الانحراف العقدي عند زعماء الحداثة، بتصرف).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *