إن نكبة فلسطين قد أدخلت على كل بيت من بيوت المسلمين حزناً عميقاً، وحسرة وأسى، وإن كلمات التفجع والرثاء على القدس تكتب اليوم بدموع وحسرة، ولوعةً وأسفاً، ولكن البحار والمحيطات إذا جرت دموعاً واجتمع العرب والمسلمون على البكاء أفراداً وجماعات وشعوباً فإن هذه الدموع لن تنقذ الأقصى والقدس.
ولم يسبق لأمة من الأمم أنها استطاعت أن تحول الهزيمة إلى نصر بالقصائد والخطب، والمقالات والمؤلفات دون أن يُدعم هذا الكلام بالعمل. وتاريخ الحروب لكل الأمم في كل العصور والأزمان خير دليل، فهل استطاع الفاتحون الأولون وعلى رأسهم الفاروق القائد أن يفتحوا القدس بالبكاء أو بالكلام؟!
وهل كان المسلمون الفاتحون الذين كانوا يحاصرون القدس سنة ست عشرة للهجرة يبكون وينتحبون ويقولون مالا يفعلون؟!
إن الفاتحين الأولين من المسلمين وقواتهم التي كانت تحاصر القدس وتضيق عليها الخناق، وكانوا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله جل جلاله وكانوا يرجون إحدى الحسنيين. الشهادة أو النصر، كانوا يعدون أنفسهم كما في قوله تعالي: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ” الأنفال، ومفهوم الإعداد يشمل:
الإعداد المادي: هو استحضار كل متطلبات القتال تدريباً وتسليحاً وتجهيزاً وتنظيماً وقيادة.
والإعداد الروحي: هو الإيمان بتعاليم الإسلام وإخراج هذا الإيمان من حيز الاعتقاد إلى حيز العمل.
فبصدق التوكل على الله، واتخاذ الأسباب المادية التي أمر الله بإعدادها دون الاعتماد عليها، انتصر أجدادنا في كل الحروب والصراعات التي دخلوها.
وبذلك كان انتصار المسلمين انتصار عقيدة، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي المجاهدين وقادتهم كما في قوله لسعد بن أبي وقاص وجنده في حرب العراق: “فإني آمرك ومن معك من أجناد المسلمين بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليكم من عدوهم. وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله. ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة. وإلا ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله. ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فربَّ قوم سُلط عليهم شرٌ منهم كما سُلط على بني إسرائيل -لما عملوا بمساخط الله- كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً. واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم.. أسأل الله ذلك لنا ولكم”.
إن القدس لا يمكن إنقاذها بالأسى والأسف، والشجب والاستنكار، والمظاهرات وحرق الأعلام والدموع حتى لو ابيضت عيون المسلمين من الدمع.
ولو نظرنا في واقع الأمة اليوم لوجدنا أنها تمر بأحوال غريبة، وأهوال عصيبة، فالخطوب تحيط بها، والأمم من كل مكان تتداعى عليها.. وإن مما يلفت النظر في هذا الشأن، غفلتها عن الطريق للخروج من هذا التيه ومن هذه الخطوب المدلهمة التي تتوالى عليها واحدة تلو الأخرى. والعجب أن الطريق واضح وبيِّن لكل ذي لب بصير، بيَّنه لنا ربنا في كتابه المجيد، ووضحته لنا سنة نبينا المصطفى الكريم.
إن الصهاينة لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم من علو واستكبار، وحروب وتفجير ودمار إلا بعد أن أخذوا بالوسائل المادية المطلوبة التي تعينهم على ذلك، ونحن مطالبون شرعا -كما سبق ذكره- بإعداد الأسباب المادية والمعنوية.
فعلى الأمة اليوم أفرادا وجماعات واجبات يلزمهم الأخذ بها، أهمها التوبة إلى الله عز وجل، والتخلص من التبعية الثقافية والفكرية والاقتصادية للغرب، ونبذ الفرقة والتدابر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفعيل منظومة القيم والأخلاق الإسلامية، ودعوة النساء إلى التزام الحجاب الشرعي، وتربية النشء على أسس عقيدة أهل السنة والجماعة، والدعوة إلى كلمة التوحيد مع توحيد الكلمة، وتحرير الحب في الله والبغض فيه، حتى يتميز الأخ من العدو، وتفعيل دور العلماء في إيقاظ الأمة من سباتها وتنبيهها أن قضية الأقصى ليست قضية الفلسطينيين وحدهم -كما يدندن العلمانيون دوما- ولا قضية العرب أيضا، بل هي قضية كل من شهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وزرع الثقة في نفوس المسلمين وتذكيرهم بالمبشرات التي وعدنا بها ربنا في كتابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته.
إن النصر له أسباب وموانع، وعندما تأخذ الأمة بالأسباب وتتجنب كل الموانع فإنها آنذاك ستسترد المسجد الأقصى وفلسطين، بل لن يكون هناك شبر واحد من بلاد المسلمين إلا وهو تحت حكم وسيطرة الأمة المسلمة التي نسأل الله تعالى أن يبعثها من رقدتها ويرفع عنها غفلتها، هو ولي ذلك والقادر عليه .
قال تعالي: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.