التعريب والفرنكفونية وحرب الهوية

“من الناحية اللغوية علينا أن نعمل مباشرة على الانتقال من البربرية إلى الفرنسية.. فليس علينا أن نعلم العربية للسكان الذين امتنعوا دائماً عن تعلمها، إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج نطاق الإسلام”.

(الجنرال ليوطي المقيم العام بالمغرب)

“إن التعريب سيقود البربر إلى إســلام تــام ونهائي، وإلى أن تـوجــد بالمغـرب كتلة إسلامية منسجمة لا نظير لها.. والمشروع يفرض أن يتم تطوير سكان الجبال باللغة الفرنسية المعبرة عن فكرنا، سوف يتعلم السكان البرابرة اللغة الفرنسية وسوف يحكمون بالفرنسية.. لذلك ينبغي العمل قبل كل شيء على تحويل مصالح الشعب المغربي في اتجاه مصالحنا نحن، وأيضاً تحويل مصيره إن أمكن، وليس هذا بدافع عاطفي محض، ولكنه بدافع فهم واضح للهدف المبتغى، والنتائج المتوخاة لصالح قضيتنا”

(موريس لوجلي)

عرف تعريب التعليم بالمغرب تعثراً شديداً، بسبب تعصب الفئة الفرنكوفونية لمصلحة التدريس باللغة الفرنسية، فكان أن عُرِّبَ في خضم الصراع السياسي بعض مراحل التعليم، تعريباً جزئياً لم يسلم من انتقادات، وبقي الآخر فرنسياً على ما كان عليه في العهد الاستعماري.
يكفي أن نذكر أن أول مشروع تعليمي أقره المغرب غداة الاستقلال أكد ضرورة اعتماد اللغة العربية لغة رسمية للتدريس، واعتبر أن مبدأ التعريب هو أحد الأعمدة الأربعة التي سيقوم عليها إصلاح التعليم بالمغرب، والمحددة في التوحيد والتعميم والتعريب والْمَغْرَبة، وقد أعلن وزير التعليم آنذاك محمد الفاسي في ندوة صحفية في نهاية السنة الدراسية 1955 ـ 1956م أن اللغة الأساسية للتعليم هي اللغة العربية، غير أن الازدواجية ستظهر في أول خطوة تطبيقية بحيث أقرت اللجنة نفسها في اجتماعها بعد سنتين أي سنة 1958م تدريس العلوم باللغة الفرنسية، منذ القسم الأول.
وقد بقي هذا الاضطراب سائداً في جميع مشاريع الإصلاح سواء في التصميم الخماسي 1960 ـ 1964م أو التصميم الثلاثي 1965 ـ 1967م، أو التصاميم الحكومية الموالية، أو مخططات اللجان الملكية المستحدثة لإصلاح التعليم، والتي بنيت في أغلبها على تقارير البنك الدولي التي تشخص الوضعية التعليمية بالمغرب، في ارتباطها بالمجال الاجتماعي والاقتصادي.
ويكفي أن نشير إلى أن النظام التعليمي في المغرب الآن يعرف العمل بمبدأ تدريس العلوم التجريبية والطبيعية باللغة العربية، في حدود التعليم الثانوي، مع اعتماد اللغة الفرنسية في تدريس هذه المواد بالتعليم العالي، مما خلق ارتباكاً واضحاً في مستوى التحصيل لدى التلاميذ، وأجهض عملية تعريب التعليم من أساسها كتجربة كان يمكن أن تنجح لو حضرت الإرادة الوطنية القوية، وخف ضغط التيار الفرنكوفوني المتنفذ الذي لا يخفي تخوفه من حملة مدروسة لتطبيق مبدأ التعريب، يتم الاستفادة فيها من التجارب الناجحة لبعض الدول العربية كسوريا والأردن، ويحمل مسؤولية التخلف العلمي والتقني إلى اللغة العربية، وكأن بلدان العالم العربي التي تدور في فلك الفرنكوفونية وتعتمد الفرنسية لغة للتدريس قد حققت بفعل ذلك طفرة نوعية في هذه المجالات، والواقع أنها فقدت هويتها، ولم تحقق ما كانت تنشد من تقدم.
إن قضية مهاجمة اللغة العربية قضية قديمة ثارت وتثور اليوم من جهة النعرات القومية العميلة للتيارات الغربية، ثارت أول ما ثارت على يد العلماني كمال أتاتورك الذي أعلن إسقاط الخلافة الإسلامية ومكن للعلمانية في بلده، ومنع كتابة اللغة التركية بالحروف العربية، ومنع الأذان بالعربية، ثم سار على ذلك النهج بعض الكتاب العلمانيين، مثل النصرانيين سلامة موسى ولويس عوض، وجماعة من العلمانيين الحداثيين الذين ارتموا في أحضان الغرب، ورموا العربية بالعَجز عن أن تساير العلوم الحديثة، باعتبار أن هذه العلوم لم تنشأ في حضنها، فدعوا إلى دراسة العلوم باللغات الأجنبية، وكانت بلاد دول المغرب العربي مع الأسف من أكثر البلدان تأثراً بهذا المنحى الفرنكوفوني.
وإن كانت بعض البلاد العربية قد حافظت على تدريس العلوم البحتة باللغة العربية، وهي الآن رائدة في هذا الباب، إذ نجد الأطباء الذين درسوا الطب بالعربية، والعلماء الذين درسوا الرياضيات بالعربية لا ينقصهم شيء، بل هم رائدون نوابغ، منهم من يُدَرِّسون العلوم في الجامعات، أو باحثون في مؤسسات أمريكية، ومؤسسات غربية، وهي تعترف بعلمهم وشواهدهم.
ونحن في المغرب ظلت اللغة الفرنسية جاثمة على صدورنا، وجاثمة على عقولنا وأفكارنا، وبذلك صارت الألسن أعجمية، والعقول أعجمية، وأما التعريب الجزئي الذي حصل، فهو مثل قصة الغراب الذي أراد تقليد الحمامة، لا هو تعلم مشية الحمامة، ولا هو حافظ على مشيته.
ولم يُخْفِ المقيم العام بالمغرب رمز الاستعمار الشهير: “الجنرال ليوطي” تأسيسه لهذا التوجه، حين أصدر دوريته الشهيرة بتاريخ 16/6/1921م حول لغة التعليم بالمغرب، إذ يقول: “من الناحية اللغوية علينا أن نعمل مباشرة على الانتقال من البربرية إلى الفرنسية.. فليس علينا أن نعلم العربية للسكان الذين امتنعوا دائماً عن تعلمها، إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج نطاق الإسلام”.
ومباشرة بعد صدور دورية ليوطي نجد “maurice leglay موريس لوجلي” ينشر مقالة مؤيدة لهذا التوجه، وذلك في السنة نفسها يقول فيها: “إن التعريب سيقود البربر إلى إســلام تــام ونهائي، وإلى أن تـوجــد بالمغـرب ـوعلى أيدينا نحن، وهو ما نرفضه ـ كتلة إسلامية منسجمة لا نظير لها.. والمشروع يفرض أن يتم تطوير سكان الجبال باللغة الفرنسية المعبرة عن فكرنا، سوف يتعلم السكان البرابرة اللغة الفرنسية وسوف يحكمون بالفرنسية.. علينا أن نُقلع في كل مكان عن الحديث باللغة العربية، وإعطاء ا لأوامر بالعربية إلى قوم هم مجبرون على فهمنا وإجابتنا.. ولذلك ينبغي العمل قبل كل شيء على تحويل مصالح الشعب المغربي في اتجاه مصالحنا نحن، وأيضاً تحويل مصيره إن أمكن، وليس هذا بدافع عاطفي محض، ولكنه بدافع فهم واضح للهدف المبتغى، والنتائج المتوخاة لصالح قضيتنا.
إن الحرب المعلنة على التعريب لهي خير دليل على مدى أهمية التعريب في تحديد هوية المواطن المغربي، فبعدما نجحت الفرنكوفونية في القضاء على اللغات الأصلية لكثير من الشعوب، في معظم مستعمراتها الإفريقية، نراها الآن لم تفقد الأمل في ضم المغرب إلى لائحة الضحايا، وما ذلك إلا لعلمها علم يقين أن صلاح وفلاح المواطن المغربي إنما يكمن في معرفته للغته دينه، وهي اللغة العربية التي تمكنه من فهم دينه، ومن بناء شخصيته وفق معايير شرعية مضبوطة تضمن له الانضباط والطمأنينة والاستقرار النفسي.
وقد جربت هذه السياسة اللغوية والتعليمية في الجزائر منذ نهاية القرن التاسع عشر حين أصدر والي فرنسا آنذاك “الأميرال كيدون” سنة 1871م أوامره إلى الآباء البيض (وهم أعضاء منظمة تبشيرية فرنسية كانت تعمل من أجل تنصير البربر في الجزائر وتونس) قائلاً: “إنكم إذا سعيتم إلى استمالة الأهالي بواسطة التعليم وبما تسدون إليهم من إحسان، تكونون بعملكم هذا قد قدمتم خدمة جليلة لفرنسا، فليس في وسع فرنسا أن تنجب من الأطفال ما يكفيها لتعمير الجزائر، ولذلك فمن الضروري الاستعاضة عن ذلك بفرنسة مليونين من أبناء البربر الخاضعين لسلطتنا. واصلوا عملكم بحنكة ودربة وحيطة، ولكم مني التأييد، وفي إمكانكم أن تعتمدوا علينا كل الاعتماد”.
ومما لا يخفى على المتابعين لسلوك الدول الاستعمارية أن استبدال اللغة الأم بلغة المستعمر كان هدفاً أساسياً حرصت عليه كل دولة مستعمرة. ومن هنا فإن أهمية اللغة العربية في حياة المسلم لا تقل عن أهمية الماء والهواء والطعام، بل هي أعظم من ذلك، فبدونها لن يفهم القرآن ولا السنة، وبالتالي لن يفهم دينه، وهذا يكفي ليهيم على وجهه في بحر من الظلمات.
إن الدعوة إلى الفرنكوفونية على حساب اللغة الأم إنما هي دعوة إلى استمرار سياسة السيِّد والعبد، وتكريس لسياسة التبعية والتقليد الأعمى التي تضمن دوام السيادة للسيِّد ودوام التبعية للعبد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *