من المعروف أن حزب العدالة والتنمية، جاء من حركة إسلامية دعوية، بغرض الدفاع عن المرجعية الإسلامية، عبر بوابة السياسة. لكن الملاحظ أن محطات كثيرة، كشفت أن الحزب تعرض لنحت وتآكل داخلي، لا يتجلى فقط ببعض الأخطاء هنا وهناك من طرف بعض الأفراد، وهو أمر طبيعي وعادي، بل بخروج قيادات لتبرير تلك الأخطاء، ولو بتبني خطاب ينقض مرجعية الحزب من أساسها، وينسف سبب وجود الحزب وغايته وهدفه.
في رأيكم إلى ما يرجع ذلك، هل هو تطور في الأفكار؟ هل هي مراجعة للقناعات؟ هل هي إكراهات وضغوطات؟ هل هو تاكتيك أم استراتيجية؟ ماذا يحدث بالضبط في هذا الحزب؟
الحركات الإسلامية بشكل عام تقدم مشروعها المجتمعي في شكل خطاب سياسي جوهره أخلاقي طهراني يبدأ من الفرد ويستهدف الحياة العامة، وهذا بالضبط ما يؤهلها للحصول عند تقدمها للانتخابات على أغلبية أصوات الناخبين، حيث إن المواطن في بلداننا العربية والإسلامية يبني مواقفه من الحالة السياسية السائدة من منطلق كونها حالة مغرقة في الفساد سواء كان هذا الفساد سياسيا أو اجتماعيا، وقد بدا ذلك واضحا في الشعارات التي رفعتها الجماهير المنتفضة خلال فترة ما يسمى بالربيع العربي.
وحزب العدالة والتنمية كهيئة سياسية متحدرة من الحركة الإسلامية لم يشذ عن هذا السياق، فطوال المدة التي كان يمارس فيها المعارضة سواء داخل قبة البرلمان أو من خلال أذرعه الإعلامية والدعوية، حرص على تبني خطاب ينتقد كل مظاهر الخلل في الحياة الاجتماعية والسياسية من منظور أخلاقي، ورفع شعار تخليق العمل السياسي والحياة العامة، وبدا ذلك جليا من خلال انخراطه في انتقاد بعض دعاوى إصلاح أوضاع المرأة، كما حدث إبان طرح الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، أو انتقاد تنظيم المهرجانات الفنية، ومظاهر الريع داخل مؤسسة البرلمان، أو من خلال مساهمتهم في النقاش العمومي حول الحريات الفردية، وغيرها من المواقف التي اتسمت عموما بسمات أخلاقية.
وفي سنة 2011، تبنى الحزب نفس مطالب الشارع في محاربة الفساد والريع، وجعلها شعارا مركزيا لحملته الانتخابية، واستطاع اكتساح صناديق الاقتراع في تعبير واضح من الناخبين عن اختيار نخبة سياسية جديدة تحمل آمال وانتظارات المواطنين في حياة سياسية قوامها نظافة الذمة وطهارة اليد من كل الممارسات التي عمقت الفوارق الاجتماعية وخلقت فئات متنفذة ومتحكمة في السلطة والثروة، ولذلك كان الإسلاميون أقرب إلى حيازة ثقة الناخبين أملا في أن تعكس ممارستهم السياسية ما هو معروف على المستوى الشعبي من سلوك فردي مستقيم وشعارات جماعية طهرانية.
إلا أن تجربة العدالة والتنمية سرعان ما اصطدمت بالفروق الشاسعة بين ممارسة المعارضة وممارسة الحكم، إذ أن النخبة المشكلة لقيادات العدالة والتنمية تنتمي في عمومها إلى طبقة وسطى مرتبطة ببيئات محافظة تستمد مصداقيتها من حرصها على مظاهر التدين، وبالتالي فهي تتعرض بشكل طبيعي حين تصدرها للشأن العام إلى إغراءات السلطة بما تمثله من انفتاح على إمكانات كبيرة تتيحها الامتيازات الممنوحة للوزراء والمسؤولين السياسيين، وشتان ما بين وضعية الهجوم المريحة التي كان الحزب يمارس من خلالها نقده للوضع السياسي والاجتماعي، وبين التراجع إلى موقع الدفاع الذي تفرضه ممارسة السلطة أمام إكراهات تسيير الشأن العام وتدبير الأزمات والاستجابة لمطالب المواطنين وتحديات تنفيذ برنامج قادر على تطوير البلاد وتنميتها.
ويتواجد الحزب اليوم في امتحان كبير لشعبيته، بفعل انقلاب الكثير من مسلكياته على الخطاب الذي استجلب به تعاطف الناخبين، فلا هو استطاع القضاء على الفساد الذي طالما دعا إلى محاربته، ولا هو استطاع فرض برنامجه “الأخلاقي” على مستوى ممارسة الشأن العام، بل إنه تراجع بشكل كبير عن معظم مطالبه السابقة، حيث يستفيد وزراؤه ومسؤولوه من ريع التعويضات المتعددة، ويتحصل المتقاعدون منهم على ريع نظام المكافآت المعمول به في المغرب من خلال تقاعد البرلمانيين والوزراء الذي يتذكر الشعب المغربي جيدا كيف كان نواب العدالة والتنمية أيام المعارضة يعتبرونه ضربا من ضروب الريع والفساد التي ينبغي القضاء عليها، كما أن السقطات الأخلاقية التي يقع فيها بعض مسؤوليه ستؤدي لا محالة إلى تضاؤل شعبيته، بالنظر إلى كونهم ينتمون إلى تيار إسلامي محافظ يشكل الخطاب الأخلاقي جوهر وجوده الاجتماعي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سعيد مبشور: باحث في قضايا الحركة الإسلامية