..يقولون عند زيارتهم:
“قدمت لك وْجْه الله يا سيدي فلان، إلا ما قْضِيتِ ليَ حَاجْتي”، جاعلين الحق سبحانه وتعالى وسيلة تقدم إلى أولئك المقبورين للتوصل إلى نيل أغراضهم. (المكي الناصري)
شاع في العصر الحديث أن الدعوة الوهابية أو أتباع الوهابية هم من يرفع لواء الحرب على القبورية والصوفية والانحرافات العقدية الخطيرة التي تعج بها المواسم والأضرحة، لكن الحقيقة أن المذاهب الإسلامية المعتبرة كلها تنبذ وتحذر من المبالغة في تعظيم القبور والبناء عليها والتمسح بها ودعوة مقبوريها دون الله تعالى.
ومن جملة تلك المذاهب مذهب بلدنا المعتمد: المذهب المالكي، فقد كان الإمام مالك رحمه الله تعالى كما صح عنه من وجوه متعددة النهي عن تشييد القبور والبناء عليها وتجصيصها وغير ذلك، وبالغ في النهي عن المبالغة في تعظيم قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتمسح به، وحذر من تتبع الآثار والمشاهد، ونهى عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، ونهى عن التوسل بغير الله.
فقال كما في المدونة (1/170): أكره تجصيص القبر والبناء عليه، وهذه الحجارة التي يبنى عليها.
وقال سحنون معلقا: فهذه آثار في تسويتها فكيف بمن يريد أن يبني عليها. اهـ.
وهذا نهي صريح من إمام المذهب في حكم البناء على القبور وتجصيصها. وتبع على ذلك كثير من أتباع مذهبه، فمن ذلك:
قال محمد العتبي (المتوفى سنة 255هـ) في المستخرجة (2/254- شرحها البيان والتحصيل): وسئل ابن القاسم عن قول عمر عند موته: ولا تجعلوا علي حجرا؟ قال: ما أظن معناه إلا من فوق على وجه ما يبنى على القبر بالحجارة. وقد سألت مالكا عن القبر يجعل عليه الحجارة يرصص بها عليه بالطين؟ وكره ذلك، وقال لا خير فيه، وقال: لا يجير ولا يبنى عليه بطوب ولا حجارة.
وتكلم الإمام أبو عبد الله القرطبي عن مسألة اتخاذ القبور مساجد وشدد في المنع، وحرم المبالغة في تشييد القبور وتعلية بنائها. قال رحمه الله في تفسيره (10/247-248): فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه، ممنوع لا يجوز… قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد.
وقال بعد أن أورد حديث الأمر بتسوية القبور: قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة، وقد قال به بعض أهل العلم وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم… وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها. وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي ينبغي أن يقال هو حرام. اهـ.
وقال العلامة المكي الناصري رحمه الله في إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة: فمنهم الذين اتخذوا القبور حرمات ومعابد، فبنوا عليها المساجد والمشاهد وزخرفوها بما يجاوز حد السرف بمراتب، واصطلحوا فيها على بناء النواويس واتخاذ الدرابيز والكسا المذهبة وتعليق الستور والأثاث النفيسة وتزويق الحيطان وتنميقها، وإيقاد السرج فوق تلك القبور ككنائس النصارى، وسوق الذبائح إليها، وإراقة الدماء على جدرانها، والتمسح بها، وحمل ترابها تبركا والسجود لها وتقبيلها، واستلام أركانها، والطواف حولها، والنذر لأهلها، وتعليق الآمال بهم، والتوسل إليهم بالله ليقضوا لسائليهم الحوائج، كما يزعمون، فيقولون عند زيارتهم: (قدمت لك وجه الله يا سيدي فلان، إلا ما قضيت لي حاجتي)، جاعلين الحق سبحانه وتعالى وسيلة تقدم إلى أولئك المقبورين للتوصل إلى نيل أغراضهم.
مع أن الميت قد انقطع عمله، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف لمن استغاث به أو سأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، واستعانة ذلك الميت وسؤاله لم يجعلهما سبحانه سببا لإذنه، وإنما السبب في إذنه كمال التوحيد فجاء هذا بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، على أن الميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس أولئك القبوريون هذا وزاروهم زيارة العبادة لقضاء الحوائج والاستعانة بهم، وجعلوا قبورهم قريبة من أن تصير أوثانا تعبد، وقد شاع هذا بين المسلمين وذاع، وعم كل ما يستوطنون به من البقاع. اهـ
فلا نظن أن بعد هذا البيان من بيان، فرحم الله علماء مذهبنا على ما بذلوا في سبيل الله ونصحوا للناس.