سبقت الإشارة في الحلقة السابقة إلى قصف البارجة الفرنسية للحي الشعبي بالدار البيضاء المسمى “التناكر” مما أدى بسكانه إلى مغادرته نحو السور الجديد بنفس المدينة، والذي كان عبارة عن مساحة من عدة هكتارات وضعت رهن التجار الأجانب ليبتعدوا عن حي “التناكر”، إلا أنهم رفضوا إعماره وبقي مستعمَلا من طرف الحركات السلطانية، وقد التجأ السكان إليه خاصة وأن به عساكر مخزنية، زيادة على أن عامل المدينة مولاي الأمين اتفق مع قنصل فرنسا على تأمين المكان. بيد أن ذلك الاتفاق لم يحترم، وتم قصف المكان، وقتل من فيه، وذلك من أجل إرهاب المغاربة كما قال قادة الاحتلال. (انظر المعلمة 15/5167).
وكان رد القبائل المجاورة أن عقدوا اجتماعا في مكان يسمى “تادارت” حيث عسكر الفرنسيون فيه، وفي “طيط مليل”، وبعثوا برسالة لأمير المؤمنين دون أن يسموه، لأنهم لم يكن لهم دراية بمن تقع الرسالة في يده أهو مولاي عبد العزيز؟ أو مولاي عبد الحفيظ؟
تقول الرسالة:
أمير المؤمنين؛
إنه لا يخفى عليكم أن العدو دخل بلادنا بخيله وجنده وسلاحه مستهدفا ترويضنا وإخضاعنا بجميع الوسائل، وإنه لم يحتل الدار البيضاء إلا لأننا لا نتوفر على السلاح الكافي، لهذا نطلب من جلالتكم تزويدنا بالأسلحة الضرورية للدفاع عن شرفنا وحماية بلدنا وعائلاتنا، وإننا لنعاهدكم على أننا سنبقى متفانين في الدفاع عن وطننا.
إن أعناقنا مشرئبة في انتظار مقدمكم لمساندتنا، لقد بلغ السيل الزبى، والعدو بالأبواب.
عجل، عجل، فقد بدأ الاحتلال.
النجدة النجدة فليس الوقت وقت انتظار، إن من يجد الأعذار سيفوته الأوان، والفاهم لا يتأخر وليس من رآى بأصدق ممن سمع.
وعلى أية حال فالحكم بيد الله هو القادر على نصرِنا، وسنعمل بنصحكم وإرشادكم”، (مصطفى العلوي، المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية 3/118).
وصادف وصول حامل الرسالة مبايعة المولى عبد الحفيظ سلطانا للجهاد وقدم جوابه للمجاهدين بالدار البيضاء على شكل منشور يعلن فيه أنه أسس جيشا لطرد الفرنسيين من الدار البيضاء، مؤرخ بـ 25 غشت 1907م.
وقبل ذلك، أي صباح 20 غشت 1907م هوجمت المواقع الفرنسية في الدار البيضاء وفضالة وردت البواخرعلى مواقع المجاهدين الذين حاصروا مواقع الجيش الفرنسي ووقع اشتباك في سيدي ميمون حيث قدر المجاهدون بالآلاف تمكنوا فيه من احتلال تادارت يوم 11 شتنبر 1907م وحطموا التحصينات التي أقامها الفرنسيون بعدما غادروها.
وفي 16 شتنبر وصلت فيالق جيش المولى عبد الحفيظ من مراكش بقيادة الأميرمحمد ولد مولاي رشيد الذي سبق أن حارب الفرنسيين في الصحراء الشرقية وتافيلالت وخيم في زناتة يوم 26 شتنبر، وقد تعزز بقبائل السراغنة والرحامنة وهو قادم، واستلم القيادة وبدأ يراسل القبائل وفيما يلي نموذج لذلك:
إخواني أولاد إبراهيم المذاكرة؛
بمجرد وصول هذه الرسالة إليكم شدوا رحالكم والتحقوا في الصباح الباكر إن شاء الله، لأن الفرنسيس شتته الله يريد الهجوم يوم العيد..
ولابد، ولابد ولن يتأخر إلا من ليس في قلبه عرق من الإسلام.
في 30 رمضان 1325هـ الموافق 6 نونبر 1907م.
انظر العلوي ص: 121، المصدر السابق.
وتجدر الإشارة هناك إلى ما أورده غابريال فير في كتابه المعنون “في صحبة السلطان: المغرب (1901-1905)”، من حوار جرى بينه وبين السلطان (المولى عبد العزيز) الذي قال عنه: “إن السلطان الذي عرفته صبيا، خليّ البال، سرعان ما أدركته الحكمة وبات يوجه على غير رغبة منه إلى الاهتمام بجسام الأمور.. في أواخر 1904.. جمعتني بالسلطان لقاءات عدة كانت محادثاتنا فيها صريحة لم تدع لي أثرا للشك في نواياه، وفي عزمه المكين ركوب مراكب المواجهة للدفاع عن نفسه.
قال لي عبد العزيز:
اصغ إلي إني لا أرى فائدة ترجى من هذه البعثة (يقصد البعثة العسكرية الفرنسية التي اقترحت عليه لإعادة النظام لتطبيق مقررات مدريد والتي فاجأ الجميع برفضها”، وأضاف: إنها تكلفني الكثير من المال، وقد كتبت من توي أطالب بسحبها.
يقول المحاور: فلبثت مشدوها. ثم قلت لعبد العزيز:
اغفر لي أن أصارحك.. فلقد جئتَ شيئا جللا.
هذا ما يجعل لفرنسا الكثير من الأسباب لتكون مستاءة منك. إنك لا تعلم أن مائة ألف رجل قائمون الآن على الحدود الجزائرية على استعداد للدخول عليك، مائة ألف رجل.
فردّ علي في كثير من الهدوء:
وأي شأن يكون لمائة ألف رجل، لو اضطر شعبي قاطبة إلى حمل السلاح؟ فلسوف يأكل رجالكم المائة ألف في رمشة عين..
إن رجالي ليسوا كرجالكم الذين في الجزائر وتونس، فهم شجعان يطلعون من الأرض حيث لا يتوقع أحدهم -ممكن يقول المحاور- لكن إذا لم يكف الجنود الذين لدينا في الجزائر فسنرسل بالمزيد من فرنسا؟
فسألني عبد العزيز وهو في ريبة وشك، وكم لديكم من الجنود؟
قلت: في غير روية مليون.
فضحك، ثم قال: فقط؟ إن عندي في بلادي من الرجال خمسة ملايين.
– أجل لكن ليس عندك بنادق ولا مدافع ولا بارود ولا كرات مدفعية.
– ربما، إن كل ما تقول ممكن، لكننا سنقتل منكم رجالا كثيرين، ونكلفكم أموالا طائلة.. وسيكون العلماء من سيشعل شرارة التمرد.. ص:216 وما بعدها.
ملاحظة:
أوردت هذا الاستطراد الذي يبين تطلع الفرنسيين لاحتلال المغرب قبل مقتل الطبيب موشان واحتلال وجدة وقنبلة البيضاء، وتصميم المغاربة على الجهاد من خلال رأي السلطان الذي كان ما يزال في عاصمته فاس يتابع تحركات الجيوش الفرنسية حول أطراف مملكته خاصة في الشرق والجنوب الشرقي ومواجهات السكان له، وهو الرأي الذي سيطبق بعد بداية الاحتلال حيث سيتكبد الغزاة خسائر فادحة لم تكن لهم ببال..
يتبع