إننا لا يمكن أن نفهم أسباب الهزائم المتكررة، والانهيارات في بناء الأمة واستمراء الهوان والاستسلام إلا إذا عدنا إلى عمق الأمة، إلى الفكر الذي تحمله، إلى النهجِ الذي تسير عليه، لنرى حينئذ أسباباً لا تُنتجُ إلا مثل هذه النتائج المريرة، ولنرى مساربَ ومسارات لا تنتهي إلا إلى هذه الهاوية المريعة.
تعدد المصادر من أسباب الهزيمة
لقد لقيت الأمةُ ما لقيت وصليت ما صليت يومَ تعددت مصادرُ التلقي بعد أن كان المصدرُ كتاب الله:
“كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين”.
“يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا”.
فإذا بالأمةِ تمزجُ بين الوحي وأحكامِ البشر.
إنها أمة ذات أهدافٍ وذات رسالةٍ وذات تاريخ، وعلينا نحن أبناء هذه الأمة أن لا نسمح لأحدٍ أن يسلبنا شخصيتنا، وأن يُملي علينا منهجه وقواعده في التفكير، فنحن لم نخلق لنجرَّ من آذاننا، ولا لنقول لأي مخلوق -كائنا من كان- سمعنا وأطعنا، ونترك خيرة الله لنا ونداءه إيانا يوم قال: “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبلَ فتفرقَ بكم عن سبيله”.
ولن نستطيع أن نحرر أرضا ما لم نحرر أنفسَنا وأفكارنا.
شعوبُك في شرقِ البلادِ وغربِها***كأصحابِ كهفٍ في عميقِ سباتِ
بأيمانهم نوران، ذكرٌ وسنةٌ *** فما بالُهم في حالك الظلمات
محبة النبي صلى الله عليه وسلم أين هي؟
وصلت الأمةُ إلى ما وصلت إليه يوم انطفأت جذوةُ حب النبي صلى الله عليه وسلم والتفاني في اتباعه والذب عن سنته، وغاب ما كان حاضراً لدى أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، يوم قال عمرو بن العاصِ رضي الله عنه: “والله ما مَلأتُ عيني من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسلمت إجلالاً له أن أنظر إليه”.
يوم كان كل صحابي يصدّر حديثه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: “بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم”.
فإذا جذوةُ الحماس لدينه صلى الله عليه وسلم تخبو، وإذا الالتزام بسنته يضعف، وإذا الغيرة على نهجه تتقاصر وتتطامن، وإذا في الساحة مع النهج النبوي مناهج، ومع الهدي النبوي طروحاتٌ وأفكارٌ أُخر.
العلماء وندرتهم
وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه يوم ندر فيها العلماء الربانيون، الأمناء على الجيل الأوفياء للأمة، الآخذون بحجزها أن تقع في النار، أو تتيه في متاهات الظلام، العلماء الذين استشهدهم الله على أعظم شهادة “شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط..”.
العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ورثوا علمهم وورثوا دورهم وورثوا مهمتهم على الأرض، فأصبح العلماء الربانيون العاملون أعز من الكبريت الأحمر، وإذا وجدوا وجد في الأمة من يرميهم بالحجارة، يتتبعهم ويثير الفتنة من حولهم، فئام من المشاغبين وعلى من؟
على الدعاة الهداة، فئام ممن إذا قالوا تسمع لقولهم وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، فإذا نظرت إلى طروحاتِهم فإذا هي مزاحمة الدعاة والتشكيك في العلماء الهداة.
مكانة العلماء وقدرهم
هؤلاء العلماء ينبغي أن يكون مقرهم من الناس سويداء القلوب وحدق المقل وأن يُبوَّئوا المكانة التي بَوَّئهم الله إياها، فتكون أعراضهم مصانة، وحرماتهم محفوظة، ومقامهم أسمى من كل المقامات. لأن مقامهم في الأمة مقام محمد صلى الله عليه وسلم فيها، إذ هم ورثته وحملة رسالته والداعون بدعوته.
فمن نوَقِّر إذا لم نوقرهم؟
وعلى من نغار إذا لم نغر عليهم؟
وعن من ننافح إذا لم ننافح عنهم؟
ونتولى مسئولية الذب عن أعراضِهم وحماية ظهورهم من خلفهم، وأن لا يُسلَموا إلى من أعطوا بسطةً في المقال، أو بسطةً في اليد، أو تمكينا ليكون لهم عليهم قول في مقال، أو استطالة بكلام، فضلاً عن أن يُؤذُوا أو يضايقوا، فضلاً عن أن يحجر على دعوتهم أو يضّيق على كلمتهم، أو تصادر المهمة التي يقومون بها في الأمة.