إننا بعد اثنين وستين عاماً من النكبة والصراع وملايين الضحايا، لحري بنا أن نفهم الدرس وطبيعة العدو الذي نواجهه، فمن قتَل الأنبياء لن يقيم وزناً للبشر مهما كانت مكانتهم، أو نبل أهدافهم، أو ضعف أحوالهم.
ومن أيقن أنه مهما فعل فسيجد حضنا أمريكياً يحتضنه ويدافع عنه ويبرر أفعاله، ويستخدم حق الفيتو للحيلولة دون معاقبته!
من جعل نفسه بمقام البنوة من الرب، ونصّب نفسه شعب الله المختار، وجعل قتل الأغيار من غير اليهود قربى إلى الرب، واستخدم البشر كأدوات لتحقيق أهدافه، أو حمير يركبها لبلوغ غاياته، ثم يطلق عليها الرصاص بعد انتهاء الحاجة إليها، هؤلاء لن يقف في طريقهم شيء؛ ولن يضعوا في اعتبارهم أي شيء؛ لا الشرعي ولا القانوني ولا الإنساني ولا..
فبعد المجزرة الجديدة التي اقترفها مشاة البحرية الصهيونية أطلعتنا وسائل الإعلام أن:
لندن تدعو إلى رفع الحصار عن غزة!!
وأوباما يتصل بأردوغان ويدعو إلى تحقيق شفاف عن حادثة أسطول الحرية!!
ووزراء الخارجية العرب يرفعون موضوع كسر الحصار عن غزة إلى مجلس الأمن الدولي ويطالبون بتحقيق دولي!!
والعرب يرحبون بقرار مصر فتح معبر رفح إلى أجل غير مسمى!!
وأردوغان يبحث مع مجلس الأمن القومي التركي الرد على الهجوم على الأسطول وقتل الأتراك على متنه..
وأخبار كثيرة لم تكن متوقعة من قبل، ومواقف غريب جدا أن تصدر على أصحابها، وقرارات لم تكن في الحسبان أفرزتها الحماقة الصهيونية في المياه الدولية بالبحر المتوسط، والخبراء يرصدون جملة من الإخفاقات التي لحقت بالسياسة الصهيونية جراء هجومها البربري على العزل في عرض البحر دون أي غطاء أو مبرر قانوني، وبما يتجاوز حدود القرصنة المعتادة في البحار، لكن الأمور مع ذلك لن تسير بهذا اليسر الذي تطرب له وسائل الإعلام العربية؛ فالحديث عن موقف بريطاني أو أمريكي أو فرنسي مناوئ للكيان الصهيوني هو أقرب إلى المزحة منه إلى الحقيقة، كما أن الموقف العربي رهين بالضغوط الخارجية لا بما تمليه أحكام الشريعة من النصرة والدعم؛ ودفع الصائل وإغاثة الملهوف.
صحيح أننا نفرح ونسعد بكل موقف عربي يخدم القضية الفلسطينية لكن سعادتنا تلك لا نتوقع لها أن تستمر؛ وإلا كنا سذجاً إلى درجة تجاوز حدود العقل وتدخل في دائرة الجنون؛ فالحاصل دوماً أن تلك المواقف سرعان ما يجري سحبها وتمويتها عند هدوء العاصفة، والشواهد أكثر مما يمكن أن تتضمنه السطور.
غير أننا من الممكن أن نسكن روعنا ونطمئن أنفسنا بما يلي:
1 ـ قوة الموقف التركي وفتحه لكوة يمكنها أن تمثل فجوة فراغية تستقطب المواقف العربية رغماً عنها إلى ما هو أبعد مما يطيقه المتخاذلون.
2 ـ غضب القاهرة من العبث الصهيوني في منابع النيل والتهديدات المتلاحقة لمصر بمصادرة جزء من حصتها المائية من شريان الحياة في مصر، وهو ما سينعكس طبيعياً ولو لم تحدث الجريمة على الموقف من الكيان الصهيوني وضرورة الضغط عليه بأي ورقة تملكها العاصمة المصرية.
3 ـ الموقف الذي وجد فيه النظام في رام الله نفسه محشوراً فيه، وإدراكه لهامش تحركه الضيق لأجل تقويض الحكم في غزة، وفهمه لصعوبة تعديل أرقام المعادلة الحالية في ظل انتفاش إقليمي لا يصب في مصلحة رام الله، لاسيما بعد أن أثبتت مواقف الحريري في لبنان أن الجولة لم تكن في صالح “المعتدلين” في المنطقة.
4 ـ الزخم الإعلامي الهائل لأسطول الحرية بما لم يمكن كتمه وإسكاته، وتضخم رجع صدى تصريحات وشهادات المخطوفين من السفن في كامل فضاء العالم الإعلامي بما لا يتوقع أن يقف عند حدود زمنية محدودة يمكن السيطرة عليها.
وبالتالي، نحن لاشك أمام شكل جديد للمنطقة بعد الجريمة ستأخذها باتجاه آخر، لن نفرط في التفاؤل حياله، لكننا ندرك أن تغييراً قد طرأ بالفعل على الخارطة، والتغيير أتى هذه المرة من القادم التركي الواعد في المنطقة العربية والمتوسطية إن جازت التسمية..