بدأت قضية الحرية بعد الثورة الصناعية في أوربا، وذلك كاتجاه للانطلاق والابتعاد عن الدين المتمثل في تسلط الكنيسة.
وانتقلت هذه القضية إلى مجالات الفكر والأدب تدعو إلى تحرره وانطلاقه، فأخذ الحديث عن المرأة، والعلاقات الاجتماعية والحديث عن الأخلاق والسلوك وغيره.
وروج اليهود هذه القضية، كما في بروتوكول صهيون ما نصه: “يجب أن نعرف كيف نسخر فكرة الحرية لجذب العامة إلى صفوفنا، وعندما تكون الجماهير موبوءة بأفكار الحرية، فإنه من السهل القبض عليها، وتغير الوضع السياسي الخاص بها”.
ولقد كان الوضع في أوربا سيئاً للغاية، حيث سادها فساد، تمثل في آراء الكنيسة وقيودها التي فرضتها على الناس وتصرفاتهم، وهكذا فقد قوي الاتجاه نحو تحطيم هذه القيود المفروضة على حريات الناس.
وهكذا برزت فكرة الحرية في أوربا بهذا الشكل المنحرف، ولا شك أنها مرت بمراحل تاريخية متعددة، فلقد كانت الحريات في العصور القديمة مكبوته بسبب السلطات المطلقة التي كان الحكام يتمتعون بها، ثم استطاعت المجتمعات البشرية أن تحقق قدرا من الحرية بعد صراع طويل مع السلطات الحاكمة، ولما جاءت الثورة الفرنسية أصدرت وثيقة حقوق الإنسان: “أعلنت فيها اعترافها بالحقوق والحريات، وكانت متأثرة بذلك المذهب الفردي الذي كان شائعا آنذاك..”.
إن الفرد في المجتمع الاشتراكي يعمل كل شيء يريده على أن يذعن للسلطة ويستجيب لها، فهو كآلة في يد الحكومة، ولا أحد يعترض أو يتحدث، ولكن للفرد أن يعاشر من يشاء، وأن يأكل ما يشاء، وأن يحارب من يشاء، وأن يقتل من يشاء فهي حرية فردية منطلقة في مجالات مقيدة في المجالات الفكرية والسياسية.
بينما هي في المجتمع الرأسمالي منطلقة هوجاء في جميع شئون الحياة، وكانت النتيجة لهذا التفسير الخاطئ للحرية في كلا المجتمعين هي (علمنة الإنسان) ومنه توزعت التيارات العقائدية المتنوعة بتنوع الطبيعة السياسية والاقتصادية لهذا الاتجاه، فمن تيار اليمين الذي كرس الحرية كقيمة عقائدية ذات مضمون سياسي واجتماعي واقتصادي؛ وأعطاها الصياغة القانونية والثقافية محاولا تقريبها إلى المنطلق، إلى التيار اليساري الذي فهم الحرية كحق، ولكن ينبغي أن يصاغ هذا الحق حسب الفكر الاشتراكي.
ودخل مفهوم الحرية في العلوم المختلفة، فعلماء النفس يقولون: “إن الحرية هي، القدرة على تحقيق الفعل دون الخضوع لتأثير قوى باطنة، سواء أكانت البواعث أو الدوافع”.
ويقول علماء القانون: “إن الحرية هي القدرة على تحقيق فعل دون خضوع لأي ضغط خارجي”.
نظرية الحرية والتي تقول: “إن على وسائل الإعلام أن تطرح الأفكار في سوق حرة، وتترك هذه الأفكار لتتصارع والفرد يقرر، فيختار ما يشاء من هذه الأفكار”، فمثلا: “الصحافة تقوم بخدمة الفرد، وتؤدي إلى التغيير بنقد الحكومة، وبالرقابة على السلطة التنفيذية، والفرد ينظر إليه على أنه كيان مستقل وذو مقدرة ذهنية تمكنه من التمييز بين الصواب والخطأ والطيب والرديء”.
وهكذا عمت أفكار الحرية أرجاء أوربا:
الفتاة تطالب بحريتها، لتعاشر من تشاء، وتعمل ما تشاء.
الفتى يطالب بحريته، ليصادق من يشاء، ويقول ما يشاء.
الأديب يسأل عن حرية الرأي.
الكاتب يسأل عن حرية التعبير.
السياسي يسأل عن حرية الكلمة، لتحويل أفكاره إلى السوق الحرة.
العامل يسأل عن حرية العمل.
الإعلامي يسأل عن حرية ترويج الأفكار ونشرها.
المهاجر يسأل عن حرية التدين والتنقل.
واختلط الحابل بالنابل، وعمت الفوضى أنحاء العالم الغربي.
وانتقل هذا المفهوم الخاطئ للحرية إلى العالم الإسلامي مثل المفاهيم الأخرى، شاملاً ذلك كل العلوم والفنون والآداب، ووجهت الاتهامات إلى الإسلام على أنه دين يجيز الرق ويقيد الحرية، ودين يمنع الانطلاق ويحد من الأفكار!!
يقول الشيخ محمد الخضر حسين موضحاً المفهوم الذي يفهمه الناشئة في العالم الإسلامي عن الحرية: “يُخال إلى الناشئة أن الحرية حق يبيح لصاحبه أن يجهر بكل ما يقدح في فكره من الآراء، وينشر في مقاله ما يؤلفه من الهجاء والأوصاف الشائنة، وتطرف فريق من الناس ففسروا الحرية بأسوأ تفسير وناولوها على معنى امتثاله داعية الهوى بإطلاق وتنفيذ الإرادة، وإن مس غيره بأذى أو حجزه عن حق ثابت لا يعترضه فيه نزاع، وترى كثيراً منهم لا يتصور لها معنى سوى حمل السلاح تحت لواء القوة وإعماله في سبيل الاغتصاب”.
النظر إلى حال أوربا الغربية دفع مفكريها إلى إنكار الإفراط في مفهوم الحرية لأنه يؤدي إلى خطر يهدد الحضارة حيث خرجوا على الآداب والأخلاق.
فالإنسان في الحياة الدنيا -وفق شريعة الرحمن- مخلوق مكلف، وليس مخلوقاً متروكاً لكامل حريته، يختار ما يشاء، ويفعل ما يشاء دون مسئولية عما يعتقد بإرادته غير المجبورة، وعما يعمل من عمل ظاهر أو باطن بإرادته غير المجبورة، ودون حساب ولا جزاء، بل هو ملاحق بالمسئولية والحساب والجزاء.
والحرية المطلقة إنما تكون فيما أباح الله له فقط؛ وللمسلم حرية ترك ما هو أحسن له وأفضل دون عقاب لكنه يحرم نفسه من الثواب العظيم والأجر.
يقول الشيخ صالح بن حميد: “حرية التفكير مكفولة، وقد منح الله الإنسان الحواس من السمع والبصر ليفكر ويعقل ويصل إلى الحق، وهو مسئول عن إهمال حواسه وتعطيلها كما هو مسئول عن استخدامها فيما يضر”.
أن ينحصر اعتقاد الإنسان في الله وحده ربا ومعبودا فلا يجوز أن يخضع لغيره أو يطيع سواه فيما يخالف الله.
أما من خضع لغير الله فقد انتقص من حرية نفسه بمقدار خضوعه وذلته لغير ربه.