أثارت أحداث الحادي عشر من شتنبر وما تبعها من تداعيات كثيراً من الأسئلة التي ما زالت في حاجة إلى الإجابة عنها، وكشفت عن كثير من الأزمات العالمية والإقليمية، كما كشفت عن كثير من جوانب القوة التي تملكها الصحوة الإسلامية بمختلف قنواتها وداوئرها، كما أنها أظهرت أيضاً كثيراً من الأدواء والمشكلات في أوساطها، ثم تلاحقت أحداث الاجتياح اليهودي البشع للأراضي الفلسطينية في ظلٍّ كئيبٍ من الصمت العالمي والعجز العربي لتكشف مزيداً من الأزمات المزمنة! وإن من دلائل الفقه والرشد استيعاب الأزمة وتوظيف دروسها لإعادة الكرَّة والانطلاق من جديد لإحياء الأمة وبنائها بنفسية عزيزة وثَّابة لا يصيبها الخور أو الضعف.. نعم! ربما تطغى ظلال الانكسار على النفس الكليلة، وتنطفئ شعلة الحيوية فيها، ويقذفها اليأس إلى آخر الصفوف، وتنسحب من ساحة العطاء، وتتوقف في منتصف الطريق منهكة القوى. وربما ترى أن أحاديث النصر وبشارات التمكين لا حقيقة لها في هذا الجيل، وأن الأمة هلكت -قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قال الرجل: هلك الناس؛ فهو أهلكهم، (رواه مسلم)- ، فتوثر العزلة والهروب إلى الوراء..!
ولكن المؤمن الصادق الواثق بنصر الله وقوته يظل مرفوع الرأس عالي الهمة، شامخاً بدينه وعقيدته لا يضره من خذله ولا من خالفه، مهتدياً بقول الحق جل وعلا: “وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (آل عمران)؛ ولهذا نهض الصحابة رضي الله عنهم بكل صدق بعد انكسارهم بادئ الأمر في غزوة أحد متحاملين على جراحهم مُقبلين على الله تعالى بكليتهم، يحدوهم قوله تعالى:”وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً” )النساء).
إن الصف الإسلامي في حاجة ماسة إلى إعادة ترتيب أوراقها من جديد، ودراستها بعمق، دراسة تتلاءم مع المتغيرات المتسارعة التي طغت على الساحة السياسية والفكرية، ومدركة للمعطيات والإمكانات المتاحة، ومكتشفة لمكامن القوة والتأثير، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها أخذوا عهداً على أنفسهم بالقضاء على الإسلام عامة والحركات الإسلامية خاصة، لهذا تواطأ الغرب والشرق على تمهيد الطريق لليهود من أجل ضرب كل أنواع المقاومة بكل صلف وجبروت وطغيان، والأيام القادمة حبلى بكثير من الهجمات الضارية التي ينبغي أن نقدر لها قدرها!
ونحسب أن من أهم أولويات المرحلة القادمة:
– أولاً: إحياء الإيمان في نفوس الناس وترسيخه في قلوبهم
فالإيمان الراسخ يعطي الإنسان قوة عظيمة تثبته على الحق، وتعصمه من نزغات الأهواء، وشبهات الأعداء، ومكائد المارقين، قال الله تعالى: “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ” (إبراهيم)، وقال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِم” (يونس).
ولن ترتفع هذه الأمة ويعلو شأنها إلا بترسيخ التوحيد والإيمان الخالص بالله تعالى، إيماناً يشرق نوره في القلوب، ويظهر أثره في الجوارح، ويصبح عقيدة راسخة في النفس رسوخ الجبال الرواسي.
وذلك يتطلب تربية جادة، وحرصاً صادقاً من الدعاة والمصلحين على البناء الحي المعطاء، وجعله من أولى أولويات العمل الإسلامي فهذه هي ثمرة الدعوة وحقيقة الرسالة، قال الله تعالى: “لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ” (آل عمران).
– ثانياً: إحياء الوعي في الأمة
كشفت الأحداث المتتالية الأخيرة أزمة عريضة في الفهم، وتجلَّت آيات هذه الأزمة في قراءة الأحداث بقواعد مضطربة غير متزنة، وبأبجديات سطحية لا تتجاوز النظر إلى التطبيل الإعلامي الذي يدير آلته المضللة أعداء الأمة، كما تجلَّت في الخلط العريض الذي برز في معظم الدوائر العامة والخاصة، سواء ذلك في التوصيف للواقع الذي يعيشه العالم ومعرفة أبعاده، أو في التكييف الشرعي للأحداث المتعاقبة، أو في تحديد ردود الأفعال وبناء المواقف الواجب اتخاذها.
ورأينا وقوع كثير من الصالحين في طرفي الإفراط والتفريط:
فالفريق الأول: غلب عليه التشنج والانفعال، واستسلم لدواعي الغضب، ولم يلجمه بلجام الشرع والعقل، ولم يقدر المصالح والمفاسد بميزان الشريعة وقواعدها المحكمة، وربَّما غلَّب النظر إلى بعض المصالح والمفاسد القريبة العاجلة، وقصَّر في دراسة المصالح والمفاسد البعيدة الآجلة.
والفريق الثاني: غلبت عليه الانهزامية والضعف، واستسلم لأهواء الأقوياء، وللضغوط الإعلامية والفكرية التي علا صوتها، وراح يُفسّر النصوص الشرعية بعقلية المنكسر الضعيف، حتى أتى على بعض الثوابت الشرعية المجمع عليها.
لقد درجت الآلة الإعلامية الغربية بكل قنواتها وأشكالها وخاصة في الأحداث الأخيرة على تزييف الوعي وإثارة اللبس وإشاعة الشبهات بكل خبث ودهاء، ووقف كثير من الناس حيارى أمام ذلك الطوفان الجارف من التحريف والتزييف..
ولقد آن الأوان لأن ننهض بجد لاستنقاذ العقول وإحياء البصيرة وإعادة الوعي تحقيقاً لقول الله تعالى: “قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ” (يوسف).
وقوله عز وجل: “وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ”) الأنعام(، وقوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ” (النساء).
انظر مثلاً إلى الهمجية اليهودية في الأراضي الفلسطينية كيف يصورها الإعلام العلماني العربي؛ فكثير منهم يفسر هذه الأحداث بناء على تطرف شخصي من (شارون)، وربما ازداد الأفق قليلاً عند بعضهم فعده تطرفاً من حزب الليكود فقط، وهذه قضية يرسخها العلمانيون من بني جلدتنا من أجل تبرئة حزب العمل وغيره من الأحزاب الديمقراطية المعتدلة بزعمهم، وتسويغ دعوات السلام التي يبشرون بها، مع أن وزير الدفاع الذي يباشر بنفسه أعمال الإبادة الوحشية من أبرز قادة حزب العمل، ووزير الخارجية العمالي هو الذي ينافح عن هذه الوحشية في المحافل الدولية ويدافع عنها؛ فهم جميعاً من صناع الحرب والخيانة.
ثم انظر أيضاً إلى التفسير العلماني للعلاقات الأمريكية اليهودية؛ فهي بزعمهم علاقات اقتصادية ومصالح سياسية فحسب أملتها ظروف المرحلة، مع تغييبهم المتعمد للبعد الديني العميق الذي يرسخ العلاقة بين اليهود والصهاينة الإنجيليين!
أوَ ليس عجيباً أن يبقى كثير منا أسرى لحملات التضليل وتغييب الوعي بسذاجة مفرطة؟!
أَوََ ليس عجيباً أن نبقى نفكر بطريقة بدائية خارج نطاق الواقع الذي نعيشه على الرغم من الأعاصير والرياح العاتية التي تحاول أن تقتلع كثيراً من خصوصياتنا وثوابتنا العقدية والفكرية..؟!
أَوَ ليس عجيباً أن تفتقر كثير من فصائل الصحوة الإسلامية إلى مراكز متخصصة للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، ومراكز الأبحاث السياسية التي تعين على استكشاف مكامن القوة والضعف، وترصد خطوات المكر والكيد، وتستشرف آفاق المستقبل برؤية علمية ناضجة؟! ويصف المفكر الاستراتيجي الدكتور حامد ربيع حالة الغيبوبة التي نعاني منها بقوله: “نحن قد مضى علينا وقت لم نقتصر فيه على عدم القدرة على التوقع، بل وأضحينا نتهرب من رؤية الواقع، بل ونصل في بعض الأحيان إلى الكذب على أنفسنا والتضليل في حقيقة ذلك الواقع، نريد الحقيقة كما هي دون أي مغالطة ودون تغليف الحقيقة بما يجردها من مضمونها الواقعي”.
– ثالثاً: الرجوع لفهم السلف الصالح شرط لرصُّ الصفوف
أكدت الأحداث الأخيرة أن جسم الأمة الإسلامية يعاني من تمزقات محزنة، وخلافات حزبية مفرقة أنهكت الأمة وأدخلتها في مفازة مقفرة من التنابذ والتهارش، وأشغلتها بالتدافع وبالقيل والقال، وبالصراعات الجدلية العقيمة التي تستنزف الجهود وتقتل الطاقات.
ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا: إن من أشد أدواء الأمة الإسلامية تأثيراً داء التفرق والتنازع، ولن يجد أعداء الأمة داءً يخترقون به الصفوف، ويحطمون به قوتها، أفضل عندهم من هذا الداء، وصدق المولى الحق: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (الأنفال).
إن الوحدة الإسلامية لن تتأتى إلى بتوحيد الفهم لنصوص الكتاب والسنة، فاختلاف الفهوم مظنة لاختلاف المواقف، واختلاف المواقف ينتج التنازع والفرقة، وليس هناك فهم مجمع عليه بين كل الفرق الإسلامية سوى فهم سلف هذه الأمة، ومخالفته هي مشاقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: “وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً” النساء. وليست هذه دعوة لإبطال الاجتهاد كما يتوهمه البعض.
إن المرحلة القادمة ليست مجالاً لتحقيق منجزات أو مكاسب حزبية محدودة، وليست وقتاً للتفاخر وتلميع الذات على حساب الأمة؛ وإنما هي مرحلة أحوج ما نكون فيها إلى الفقه العميق بضرورة الرجوع إلى فهم السلف الصالح لتحقيق التآلف، ورصِّ الصفوف، وتجاوز الخلافات الاجتهادية بفقه وحلم، وصَدَق الرافعي إذ يقول: (أضيع الأمم أمة يختلف أبناؤها؛ فكيف بمن يختلفون في كيف يختلفون!).
إنَّ من التحديات الكبيرة التي تواجه قادة الرأي وأولي النهى: إيجاد المحاضن التربوية والمجالات العلمية المتعددة التي يمكن من خلالها استيعاب شتى الطاقات، وتنمية ملكاتها الإبداعية المنتجة، فالمرحلة القادمة مرحلة عزيمة وجد، والزمن زمن الأقوياء، ولا مكان فيه للعجزة البطَّالين..!!